التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
اتخذ السلطان محمد الفاتح خطوة عسكرية قوية ضد المجر في الوقت نفسه الذي تحرَّكت فيه الأساطيل العثمانية ناحية الجزر الأيونية.
في هذه المرحلة، وبعد النجاح الكبير الذي وصل إليه الفاتح في سلاسله المتتالية من الجهاد والفتوح، وبعد ما يقرب من ثلاثين سنة من العمل المتواصل، والجهد المتراكم، صار هدفه الأوَّل الآن هو فتح روما!
لا شَكَّ في أنَّ هذا الهدف لم يُغادر ذهن السلطان الفاتح قط، وكان فتح القسطنطينية عام 1453م على يده حافزًا له لإكمال تحقيق البشارة النبويَّة العظيمة بفتح روما أيضًا..
قال أَبُو قَبِيلٍ رَحِمَهُ اللهُ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسُئِلَ: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا: القسطنطينية أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَدَعَا عَبْدُ اللهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ، قَالَ: فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ نَكْتُبُ، إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا: قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَدِينَةُ هرقل تُفْتَحُ أَوَّلًا» يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ[1].
من المؤكَّد أنَّ هذا الحديث كان متداولًا بكثرة في الأوساط العثمانيَّة بعد فتح القسطنطينية؛ إذ أصبح الأمل البعيد حقيقةً واقعةً بتحقيق الجزء الأوَّل من البشارة، ولا يُستبعد أن يكون الجزء الثاني من البشارة قريبًا من الأوَّل، ولا يُستبعد أن يكون على يد البطل نفسه الذي حقَّق الجزء الأوَّل؛ أي السلطان محمد الفاتح، وكان هذا واضحًا في هتافات الجنود وهم يُحاصرون شقودرة عام (887هـ= 1474م) في حصارها الأوَّل، قائلين: روما.. روما..[2].
لكنَّ الفرق بين هذه المرحلة التي نحن بصدد دراستها الآن -أي بعد معاهدة البندقية- وبين المراحل الأخرى التي سبقت في تاريخ الفاتح، أنَّ الخطوات العمليَّة لفتح روما صارت الآن ممكنة؛ فلم يعد الحلم بعيد المنال، إنَّما صار قريبًا للغاية؛ فالمسلمون الآن وصلوا إلى الأدرياتيكي، ولم يعد أمامهم إلَّا عبور هذا البحر، وهو ليس من البحار العريضة؛ حيث يبلغ عرضه في أضيق مكان (عند مدينة أوترانتو Otranto الإيطاليَّة) أقلَّ من مائة كيلو متر، وها قد صار المسلمون يُسيطرون على معظم ألبانيا واليونان، وهما الإقليمان المواجهان لإيطاليا من الناحية الأخرى للأدرياتيكي.
لقد صار الحلم ممكنًا إِذَنْ!
لكنَّ حلمًا كبيرًا كهذا لا يكون دون إعاقاتٍ أو تحدِّيَّات، والواقع أنَّ هذه التحدِّيَّات كانت كثيرة، وكان على الفاتح أن يُفكِّر فيها مجتمعة، حتى يُمكن أن يتعامل مع المسألة بطريقةٍ واقعيَّةٍ تزيد من فرصة النجاح، وذلك بعيدًا عن العاطفة وأحكامها، فإنَّ الأحكام العاطفيَّة قد تُورِد صاحبها المهالك، ولم يكن الفاتح من هذا النُّوع العاطفي؛ إنَّما كان يأخذ بكامل الأسباب، مع توكُّله الكامل على الله عز وجل..
ما التحدِّيَّات العمليَّة التي تُواجه الفاتح في هذه الخطوة الجريئة؟!
أولًا: من المتوقَّع أن يُؤدِّي سعي الفاتح إلى غزو إيطاليا وإسقاط روما، إلى استنفار أوروبا كلِّها؛ فبالإضافة إلى القوات الباباوية، فمن المتوقَّع أن تستجيب لنداءات البابا عدَّة دولٍ كبرى مثل: النمسا، والمجر، وفرنسا، وإنجلترا، وإسبانيا، والبرتغال، بالإضافة إلى بعض الدول الإيطاليَّة التي هي على وفاقٍ مع البابا، ومِنْ ثَمَّ فلا بُدَّ أن يكون جيش الفاتح ضخمًا ليُواجه هذه القوى مجتمعة، فضلًا عن أهميَّة عدم انشغال هذا الجيش بحروبٍ أخرى، أو جبهاتٍ فرعيَّة، قد تستنزف قوَّته، وتُشتِّت جهوده.
ثانيًا: من المحتمل أن تُؤثِّر هذه الحملة ذات الطابع الديني الواضح في معاهدة السلام مع البندقية، فتستجيب الجمهوريَّة الكاثوليكيَّة للضغوط الأوروبيَّة، وتُنهي سلامها مع الدولة العثمانيَّة، خاصَّةً أنَّ كلَّ القوى الأوروبيَّة أوقعت اللوم الشديد على البندقية لقبولهم بالشروط القاسية التي فرضها عليهم العثمانيُّون.
ثالثًا: على الجيش العثماني أن يغزو مملكة نابولي أوَّلًا قبل أن يتجاوزها إلى روما؛ فهي تُسيطر على الجنوب الإيطالي، ولاسبيل للوصول إلى دولة البابا إلَّا باختراق نابولي، وهذا تحدٍّ كبيرٍ ليس فقط لقوَّة نابولي، ولكن لعاملين آخرين مهمَّين؛ أمَّا الأوَّل فهو أنَّ الهجوم على نابولي سيدفع مملكة إسبانيا الصاعدة بقوَّة للقدوم حتمًا بأساطيلها لحرب الفاتح، والسبب في ذلك أنَّ فرديناند الأول ملك نابولي تزوَّج في 1476م -أي قبل هذه الأحداث بثلاث سنوات فقط- چوانا Joanna أخت الملك فرديناند الثاني ملك أراجون الإسبانيَّة وصقلية Ferdinand II of Aragon[3]، أمَّا هذا الملك الأخير -أعني فرديناند الثاني- فإنَّه تزوَّج إيزابيلا Isabella I ملكة قشتالة (Castile) الإسبانيَّة عام (879هـ= 1474م)، ممَّا أدَّى إلى تكون الوحدة السياسيَّة المسمَّاة «إسبانيا» لأوَّل مرَّةٍ في التاريخ[4][5]، وكانت قوَّةً فتيَّةً جدًّا، ومن المتوقَّع أن تأتي بكلِّ قوَّتها لنصرة ملك نابولي، خاصَّةً أنَّ الميول العدائيَّة عند ملوك إسبانيا ضدَّ المسلمين كبيرةٌ للغاية؛ لأنَّ هذه الأحداث كانت متزامنة مع حربهم مع إمارة غرناطة الأندلسيَّة في المراحل الأخيرة من عُمْر المسلمين في الأندلس.
كان هذا هو العامل الأوَّل في خطورة حرب نابولي، أمَّا العامل الثاني فهو احتمال توحُّد القوى الإيطاليَّة في حرب الدولة العثمانية بعد الهجوم على نابولي، وكان الفاتح يستخدم العداوات المتكرِّرة بين هذه القوى الإيطاليَّة في حربه معهم؛ فيتحالف مع أحدهم ضدَّ الآخر، أو يُعطي امتيازات لفريقٍ على حساب فريقٍ آخر، وكان هذا يُحقِّق له نجاحات كبيرة، أمَّا حربه المباشرة مع نابولي فإنَّها قد تقود إلى توحُّد فلورنسا، والبندقية، وميلانو، مع نابولي، فضلًا عن قوَّات البابا.
رابعًا: لا تمتلك الدولة العثمانيَّة أيًّا من الجزر الأيونيَّة السبعة الموجودة في مدخل البحر الأدرياتيكي الجنوبي؛ فثلاثة منها تتبع البندقية، وهي جزر: كورفو، وباكسي، وكيثيرا. أمَّا الجزر الأربعة الأخرى، وهي: كيفالونيا Cephalonia، وليفكاس Lefkas، وإيثاكا Ithaca، وزانتي Zante، فإنَّها كانت تحت حكم الأمير ليوناردو الثالث، وهو أميرٌ من أصولٍ إيطاليَّة، وكان يدفع الجزية للدولة العثمانيَّة، ولكنَّه في محاولةٍ لتدعيم موقفه أمام العثمانيِّين والبنادقة تزوَّج في عام 1477م -أي قبل هذه الأحداث بعامين فقط- فرانسيسكا Francesca بنت أخي فرديناند الأول ملك نابولي[6]، فصار من المتوقَّع أن تقف هذه الجزر في صفِّ نابولي في محاولة غزو إيطاليا، وهكذا صار مدخل الأدرياتيكي محفوفًا بالمخاطر، وهي محطَّةٌ لا بُدَّ للعثمانيِّين أن يمرُّوا بها في طريقهم إلى روما!
خامسًا: من التحدِّيَّات الكبرى التي كانت تُواجه السلطان الفاتح كذلك، بل أخطر من مسألة الجزر الأيونيَّة، كان وجود فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس؛ فهذه القوَّة المعادية كانت خطرة للغاية، وكانت تُشارك في معظم الحملات الصليبيَّة الموجَّهة للدولة العثمانيَّة، وكان آخرها مهاجمة شواطئ الأناضول، وحرق إزمير عام 1472م، في الحملة الصليبية الأخيرة التي وجَّهها البابا سيكستوس الرابع[7]، ولذلك فمن المؤكَّد أنَّها ستضرب أساطيل الدولة العثمانيَّة في ظهرها بمجرَّد خروجها من الموانئ العثمانيَّة في اتِّجاه إيطاليا، فهذا يتطلَّب مواجهة خطرة للغاية مع هؤلاء الفرسان، خاصَّةً أنَّ حصون رودس كانت في منتهى الحصانة والقوَّة.
سادسًا: لا يُمكن في هذا الإطار الذي نتحدَّث فيه عن التحدِّيَّات التي تواجه الفاتح في حال تحرُّكه في اتِّجاه إيطاليا، إغفال التحدِّي المجري الكبير؛ فالمجر -كما وصفنا منذ قليل- تستعدُّ استعداداتٍ كبيرةً لحرب العثمانيِّين، وقد تهجم على الدولة العثمانيَّة في أيِّ لحظة، وجبهاتها واسعةٌ معها، ولن يأمن الفاتح على جيوشه في إيطاليا إذا كان العدوُّ المجري في قوَّته وتحفُّزه، خاصَّةً أنَّ أطماع المجر في الإفلاق موجودة، كما أنَّهم يدعمون استيفين الثالث أمير البغدان، وهم على علاقةٍ طيِّبة بالبابا، على الرغم من غضبهم الأخير منه لسكوته على معاهدة السلام الخاصَّة بالبندقيَّة، فكلُّ هذا يُؤكِّد أنَّ الصدام مع إيطاليا وروما لا بُدَّ أن يُؤدِّي إلى صدامٍ مع المجر القويَّة كذلك.
سابعًا: هناك بعض التحدِّيَّات الأقل أهميَّة، وإن كانت في مجموعها تُؤدِّي إلى إعاقةٍ لعمليَّة فتح روما؛ ومنها على سبيل المثال: احتمال تحرُّك استيفين الثالث أمير البغدان ضدَّ العثمانيِّين في الإفلاق أو غيرها، ومنها احتمال عودة أمير زيتا (إيڤان كرنويڤيتش) من ملجأه في إيطاليا لإثارة القلاقل في غرب البلقان مستغلًّا دعم الإيطاليِّين والبابا له في حال غزو محمد الفاتح لهم، ومنها احتمال تجدُّد بعض الثورات في اليونان أو ألبانيا على غرار الثورة الأخيرة، التي قام بها كروكوديلوس كلاداس في ماينا على إثر رفضه معاهدة البندقية، ومنها احتمال توتُّر العلاقات مع دولة المماليك في مصر لكونها تعقد معاهدات سلام وتجارة مع فرسان القديس يوحنا في رودس، وغير ذلك من التحدِّيَّات التي يُمكن أن تنشأ نتيجة هذا العمل الضخم الذي يرغب الفاتح في الإقدام عليه.
هذه هي التحدِّيَّات الكبرى أمام فتح روما، وكلُّ واحدٍ من هذه التحدِّيَّات يكفي لإعاقة مثل هذا العمل، فكيف بها مجتمعة؟!
لكن كلَّ هذه الصعوبات ما كانت لتُثني الفاتح عن إقدامه الحثيث لتحقيق طموحه الكبير، ولذا فقد رتَّب أوراقه، وسعى للتعامل مع هذه التحدِّيَّات بما يُناسبها، آخذين في الاعتبار أنَّه لم يبدأ العمل في هذه الخطوات إلَّا بعد أن عاد إليه لطفي بك ترجمان الدولة من البندقية، بعد تأكيد المعاهدة في (2 صفر 884هـ الموافق 25 أبريل 1479م)؛ أي أنَّ هذه الخطوات بدأت تقريبًا في أواخر مايو أو أوائل يونيو 1479م.
كان الفاتح يعلم أنَّ هناك بعض التحدِّيَّات التي تُواجه فتحه لروما لن تُحَّل إلَّا بالطرق العسكريَّة القويَّة، وبعضها قد يُتَعامل معها بالطرق الدبلوماسيَّة السلميَّة، ولو بشكلٍ مؤقت، وعلى هذا بدأ في وضع خطَّته على النحو التالي:
إنَّ وجوده عسكريًّا في الجزر الأيونيَّة أمرٌ لا بُدَّ منه إذا ما أراد فتح إيطاليا؛ فهو بالإضافة إلى كونه يحتاج إلى قاعدة ارتكازٍ قويَّةٍ بالقرب من سواحل إيطاليا يستطيع أن يتزوَّد منها بالمؤن والمدد، ويعود إليها في حال الانسحاب، فإنَّه لا يطمئن إلى وجود هذه الجزر في ظهره وهي محكومةٌ بأميرٍ إيطاليٍّ يُوالي مملكة نابولي، التي سيُوجِّه إليها الفاتح ضربته الأولى وهو في طريقه إلى روما. لذا كان ضروريًّا للفاتح أن يتعامل مع المسألة بشكلٍ عسكريٍّ غير دبلوماسي، ومع ذلك فهو لم يكن يُريد أن يُخالف الأعراف الدوليَّة والشرعيَّة في تعامله مع هذه الجزر التي تدفع إليه الجزية مقابل السلام، فانتظر أن تأتي فرصةٌ يُمكن أن تكون عذرًا له في غزو الجزر عسكريًّا، وقد أتت الفرصة سريعًا؛ إذ قرَّر ليوناردو الثالث أمير الجزر الأيونيَّة عدم دفع الجزية هذا العام[8]! قد يَعُدُّ بعضهم أنَّ هذه مصادفةٌ عجيبة! لكنَّ الواقع أنَّها ليست أمرًا مدهشًا إذا ما قرأناه بصورةٍ مختلفة! إنَّ مثل هذه الحوادث -أعني التخلف أو المماطلة في دفع الجزية- تحدث كثيرًا، وقد رأيناها مرارًا مع البغدان، وألبانيا، والإفلاق، وصربيا، بل رأينا أنَّ بعض الإمارات الإسلاميَّة مثل قرمان كانت تُماطل في دفع الضريبة المقرَّرة عليها، وذلك قبل ضمَّها للدولة العثمانيَّة.. إنَّ هذا أمرٌ متكرَّرٌ ومألوف، وعندها يُتْرك الأمر للقيادة في إسطنبول، فهي إمَّا تُقرِّر المضيَّ في الطرق الدبلوماسيَّة ومحاولة التفاهم لتمرَّ الأزمة، أو تختار الحلَّ العسكريَّ لإنهاء المشكلة، وحيث إنَّ الرؤية واضحةٌ هنا في مسألة الجزر الأيونيَّة، وحيث إنَّ الفاتح ينتظر علَّةً شرعيَّةً وقانونيَّةً تسمح له بدخول الجزر، فإنَّه انتهز هذه الفرصة التي جاءته على طبقٍ من ذهب، ولم يمضِ قيد أنملة في طريقٍ دبلوماسيٍّ قد يكون سهلًا لإعادة دفع الجزية؛ إنَّما أَمَر أسطوله البحري بالاستعداد لغزو الجزر عسكريًّا، ولم يُكرِّر طلبه للجزية قط. إنَّ وضوح الرؤية هذا، وحسن التخطيط هو الذي أتاح للفاتح استغلال الفرصة، ولو كانت خطواته عشوائيَّة، أو دراسته غير متعمِّقة، ما أمكنه استغلال الحدث استغلالًا مناسبًا.
هذا هو القرار بشأن الجزر الأيونيَّة.. لكن يبقى زمان تنفيذه، الذي يحتاج إلى دقَّةٍ حتى يتمَّ بشكلٍ ناجحٍ غير منقوص، والأمر لا يتعلَّق هنا فقط بالقوَّة العسكريَّة المناسبة؛ لأنَّ قوَّة الجزر الأيونيَّة ضعيفةٌ للغاية، ولا يُنتظر منها مقاومةٌ مخيفة، ولكنَّ الأمر يتعلَّق بالمتغيِّرات الكثيرة التي تُحيط بالأمر؛ فالبحر ليس مفتوحًا للسفن العثمانيَّة وحدها، بل هناك عدَّة أساطيل قويَّة تتحرَّك في المنطقة، وأخطر هذه الأساطيل هي التابعة للبندقيَّة، ولفرسان القديس يوحنا في رودس، وللجمهوريَّات الإيطاليَّة المختلفة، وأهمها نابولي وفلورنسا، بالإضافة إلى أساطيل دولة المماليك المصريَّة، وكان لا بُدَّ للفاتح أن تكون له طرقٌ مناسبةٌ للتعامل مع كلِّ كيانٍ من هذه الكيانات المتعدِّدة..
أهمُّ هذه الكيانات كانت البندقية! نعم عُقِدَت معاهدة سلامٍ كانت فيها الكلمة العليا للدولة العثمانيَّة، لكن السلام مع القوى الأوروبيَّة ليس مأمونًا قط؛ فهم كثيرًا ما يغدرون ويتنكَّرون لعهودهم، وقد لُدِغَت الدولة العثمانيَّة قبل ذلك كثيرًا من هذه الأمم، وستُلْدَغ مستقبلًا مرارًا، فلا بُدَّ من أخذ بعض التدابير التي يُمكن أن تُحافظ على استمرار السلام مع البندقية، خاصَّةً أنَّ هذه جمهوريَّةٌ تُسيطر على ثلاث جزرٍ من الجزر الأيونيَّة؛ أي أنَّ جيوشها قريبةٌ جدًّا من الحدث، بل قد تضطرُّ أساطيل الدولة العثمانيَّة إلى المرور في مياه إقليميَّة تابعة للبندقيَّة وهي في طريقها لغزو الجزر الأيونيَّة الأربعة الأخرى، فماذا يفعل الفاتح؟!
أخذ الفاتح بعض التدابير بخصوص هذا الشأن يُمكن إيجازها في هذه النقاط:
1. أمر الفاتح رئيس البحريَّة كديك أحمد باشا (الذي كان الصدر الأعظم قبل ذلك) أن يُرسل رسالةً إلى الحكومة البندقية يطلب منهم المشاركة العسكريَّة معه في غزو نابولي! وذكر في رسالته أنَّ نابولي والبابا أعداءٌ مُشْتَركون للدولة العثمانيَّة والبندقية! بالطبع رفضت البندقية الأمر، لكنَّها فعلت ذلك بشكلٍ دبلوماسيٍّ ودون تصعيد[9]. ماذا كان يهدف الفاتح من وراء هذه الرسالة؟! لا أعتقد مطلقًا أنَّه كان يُريد فعلًا من البندقية أن تُقاتل إلى جواره؛ بل إنَّه لا يأمن ذلك أصلًا حتى لو وافقت البندقية، ولكنَّ هناك أهدافٌ أخرى يُمكن أن تتحقَّق من وراء هذا الأمر؛ منها طمأنة البندقية إلى جانب الدولة العثمانيَّة، وأنَّ الدولة العثمانيَّة تُعاملها كصديقٍ تكشف له أسرارها، وتشترك معه في حروبٍ مصيريَّة، وهذا وإنْ لم يكن له على أرض الواقع تطبيق، إلَّا أنَّه يُؤدِّي إلى تلطيف العلاقة بين الطرفين، ويسكب بعض الماء على النيران المشتعلة بين الطرفين لأكثر من ستَّة عشر عامًا، ثُمَّ إنَّ هناك هدفًا عسكريًّا مهمًّا وراء هذه الرسالة، وهو توجيه أنظار البندقية وأوروبا إلى خطوة غزو نابولي، بينما الواقع ليس كذلك؛ إذ إنَّ الخطوة القادمة هي غزو الجزر الأيونيَّة وليس نابولي، وغزو نابولي لن يكون إلَّا بعد الاستقرار في هذه الجزر، وخاصَّةً جزيرة كيفالونيا الكبيرة، فهو إِذَنْ نوعٌ من التمويه العسكريِّ حتى لا تأخذ الجزر الأيونيَّة احتياطات تمنع نجاح العمليَّة، وفي حالة وصول خبر غزو إيطاليا إلى مملكة نابولي فإنَّها ستصرف كلَّ تدعيماتها العسكريَّة إلى الشواطئ الإيطاليَّة، ولن تُضحِّي بإرسال أساطيل إلى الجزر الأيونيَّة.
2. لاستكمال خطة «تلطيف» العلاقة بين الدولة العثمانيَّة والبندقية، أرسل الفاتح وفدًا عثمانيًّا آخر إلى البندقية وصلها في الأوَّل من أغسطس 1479م، وكان الوفد محمَّلًا بطلبين من حكومة البندقية: الأوَّل هو دعوةٌ شخصيَّةٌ لدوق البندقية چيوڤاني موسينيجو لحضور حفل ختان أحد الأطفال الأمراء في بيت الفاتح، والثاني هو طلب رسَّام جيِّد تثق فيه الحكومة البندقية لتزيين جدران القصر الحاكم «توب كابي» في إسطنبول[10]، وكان الفاتح يُريد لهذا القصر أن يكون على مستوى القصور الحاكمة الفخمة في أوروبا، وذلك دعمًا لشكل الدولة القويِّ أمام أعدائها. اهتمَّت البندقية اهتمامًا كبيرًا بالرسالة، وعلى الرغم من اعتذار دوق البندقية عن تحقيق الطلب الأوَّل بدعوى الضغوط الكثيرة على الحكومة في هذه الفترة، فإنَّه سعى باهتمامٍ شديدٍ لتحقيق الطلب الثاني، وهو توفير رسَّامٍ إيطاليٍّ محترفٍ لإرساله إلى إسطنبول، بل تكفَّلت الحكومة البندقية بكلِّ مصروفات الانتقال والعمل الخاصَّة بالرسَّام[11]. وقع اختيار حكومة البندقية على الرسَّام الإيطالي الشهير چنتيل بلليني Gentile Bellini لأداء هذه المهمَّة، وهو أشهر الرسَّامين البنادقة في زمانه، بل هو الرسَّام الرسمي لحكومة البندقية، والمسئول عن رسم الشخصيَّات الحكوميَّة والثريَّة الكبرى في الجمهوريَّة[12]، ومع كون هذا الرسَّام الشهير مشغولًا منذ خمس سنوات في ترميم القصر الجمهوري الحاكم في البندقية إلَّا أنَّ دوق البندقية أمره بتسليم أعماله إلى أخيه الأصغر چيوڤاني بلليني Giovanni Bellini، وتفريغ نفسه لمهمَّة إسطنبول[13]، وهذا يدلُّ على الاهتمام الكبير من البندقية بشأن رسالة الفاتح. ولقد سافر الرسَّام الإيطالي بالفعل إلى إسطنبول في سبتمبر 1479م، ومكث بها خمسة عشر شهرًا متَّصلة ليقوم بعمله الكبير الذي ما زال موجودًا إلى الآن[14]، بل إنَّه رسم في هذه الرحلة صورةً شخصيَّةً للفاتح (بورتريه)، وهي الصورة المشهورة للسلطان، وهي على درجةٍ عاليةٍ من الاحترافيَّة، ولقد قدَّم استيفانو كاربوني Stefano Carboni وصفًا دقيقًا لهذه الصورة ولمدى المهارة التي بُذِلَت في رسمها[15]، وهذه الصورة موجودةٌ الآن في المعرض الوطني بلندن (The National Gallery)[16].
الشاهد من هذه النقطة أنَّ الرسالة العثمانيَّة تركت أثرًا جيِّدًا في البندقية، وبدا واضحًا أنَّها لا تُريد للسلام أن يتعكَّر، خاصَّةً أنَّها واقعةٌ بالفعل في مشكلاتٍ داخليَّةٍ في إيطاليا، ولا تُريد أن تقع في تصعيداتٍ جديدةٍ على الجبهة العثمانيَّة، وهذا أراح السلطان الفاتح، وجعل ذهنه يصفو لمسألة البابا ونابولي.
3. قرَّر الفاتح أن يستكمل فتح قلاع شرق البحر الأسود، والواقعة على شواطئ مملكة چورچيا؛ وذلك حتى يستكمل السيطرة على كامل تجارة البحر الأسود، ويُوفِّر في الوقت نفسه كامل الأمان لحركة السفن في البحر، فاستطاع فتح إقليم أچارستان Adjara وخاصَّةً مدينته الرئيسة باطومي Batumi[17][18]، وهذا يُعَدُّ تمهيدًا جيِّدًا لدخول البندقية إلى البحر الأسود دون حدوث مشكلاتٍ عسكريَّةٍ مع قوى أخرى قد تُؤدِّي إلى تعقيد الموقف مع العثمانيِّين؛ فالدولة العثمانيَّة دون شَكٍّ لن تطمئنَّ لحدوث معارك في البحر الأسود حتى لو لم تكن طرفًا فيها، وفي الوقت نفسه سيمنع التجارة المحتملة بين البندقية ومملكة چورچيا، فيُصبح الوسيط الأوحد في المنطقة هو الدولة العثمانيَّة، وهذا لن يُحقِّق المكاسب العسكريَّة والاقتصاديَّة فقط؛ بل سيحمي العثمانيِّين من احتمالات التعاون بين البنادقة والكرچيِّين (أهل چورچيا) في المستقبل؛ حيث كان هذا حادثًا قبل ذلك، ولمدَّة عقود، وخاصَّةً في القرن الرابع عشر[19].
ويرجع اختيار الفاتح لهذا التوقيت للقيام بهذه العمليات العسكرية شرق البحر الأسود إلى عامل آخر مهم؛ وهو وفاة السلطان أوزون حسن سلطان الآق قوينلو في عام 1478م، مما حرم هذه المنطقة من أحد كبار الداعمين لها؛ مما أعطى الفاتح الفرصة لاستكمال عملياته العسكرية هناك دون تردد، ويؤكِّد ارتباط الأمر بموت أوزون حسن أن الفاتح قام بغزو إمارة تورول Torul في هذا التوقيت أيضًا، وكانت تورول إمارة مستقلة عن چورچيا ولكنها تابعة لأوزون حسن؛ وكذلك قام الفاتح في الحملة نفسها بفتح مدينتين في قفقاسيا، وكانتا تابعتين لچنوة، وهما كوبان Kuban، وأنابا Anapa، وبذلك يكون قد جعل الساحل الشرقي للبحر الأسود عثمانيًّا خالصًا[20].
إِذَنْ كان منهج الفاتح مع البندقية هو محاولة توفير المناخ المناسب لاستمرار عمليَّة السلام، وقد نجحت هذه الطريقة مع الجمهوريَّة بشكلٍ كبير، ولا شَكَّ أنَّ ضَعْفَ البندقية النسبي، وخوفها من تكرار الحروب الكارثيَّة مع الدولة العثمانيَّة كان دافعًا لها لمراعاة مشاعر العثمانيِّين، وقبول هذا الطرح السلمي، وتناسي العداوات الكبيرة التي كانت بين الطرفين، وما أوضح الكلمات التي شرح بها المؤرِّخ الروماني ليڤيو بيلات Liviu Pilat سياسة البندقية بعد 1479م! عندما قال: «أجبرت هزيمة البندقية من الدولة العثمانيَّة في حرب (1463- 1479م) على اتِّخاذ سلوكٍ حَذِرٍ للغاية تجاه الباب العالي في السنوات التالية؛ كان الأثر سلبيًّا في كلِّ المستويات، فمع أنَّ البندقية أنفقت أموالًا طائلةً للدفاع عن ممتلكاتها، فإنَّها في الواقع فقدت عدَّة أماكن استراتيجية في بحر إيجة وألبانيا، وأُرغِمت على قبول معاهدة سلام مُذِلَّة، والأكثر من هذا، فإنَّ النكسات التي تعرَّضت لها البندقية خلال الحرب حطَّمت ثقة الجمهوريَّة في تفوُّق أسطولها البحري».. ثم يقول بيلات بعد أن استعرض بعض مظاهر ضعف البندقية: «كلُّ هذه الأسباب تُفسِّر لماذا تجنَّبت البندقية أيَّ عملٍ عسكريٍّ عدائيٍّ ضدَّ الدولة العثمانيَّة لمدَّة عقدين كاملين»[21].
من المؤكَّد أنَّ الفاتح كان يقرأ هذا المشهد بوضوح، وهذا ما جعله يسلك هذه السياسة الهادئة مع البندقية ليُشجِّعها على إكمال المسيرة في هذا الطريق السلمي.
هذا هو الوضع تجاه البندقية..
لكنَّ الوضع تجاه فرسان القديس يوحنا في رودس كان مختلفًا!
كان فرسان القديس يوحنا يُمثِّلون خطرًا حقيقيًّا على الدولة العثمانيَّة، وكانوا في حالة حربٍ معلنةٍ مع العثمانيِّين بسبب مشاركتهم في الحملة الصليبيَّة على الأناضول عام 1472م، وبالتالي كان متوقَّعًا من الدولة العثمانيَّة أن تقوم بغزو رودس بمجرَّد الانتهاء من حرب البندقية، وحيث إنَّ فرسان القديس يوحنا لم يكن لهم مأوى سوى رودس، فإنَّه كان من المتوقَّع أن تكون الحرب معهم شرسةً للغاية، خاصَّةً مع مناعة حصونهم، وتعاطف القوى المسيحية الغربيَّة معهم، ممَّا قد يُعطيهم دعمًا عسكريًّا وماليًّا يرفع من درجة مقاومتهم. هذا كلُّه جعل الفاتح يُدرك أنَّ فتح رودس ليس أمرًا سهلًا -كما هو متوقَّعٌ مع الجزر الأيونيَّة مثلًا- إنَّما هو أمرٌ يحتاج إلى طول إعداد، وكذلك إلى جيوشٍ كبيرةٍ تصبر على طول الحصار. هذا يعني أنَّ فتح رودس لا يصلح أن يكون أمرًا عابرًا يقوم به الفاتح وهو في طريقه إلى فتح إيطاليا، بل ينبغي له التعامل معه بحسن ترتيبٍ وصبر، ولأنَّ الفاتح كان يُريد فتح الجزر الأيونيَّة في صيف 1479م فإنَّه أراد تأمين جانب رودس -ولو مؤقَّتًا- حتى يتمكَّن من الانتهاء بنجاح من مسألة هذه الجزر، ولهذا قرَّر السلطان الحكيم أن يبدأ مباحثات دبلوماسيَّة مع فرسان القديس يوحنا! لم يكن الهدف في رأيي من هذه المباحثات هو إقناع فرسان القديس يوحنا بالتبعيَّة للدولة العثمانيَّة، إنَّما كان الهدف مزدوجًا؛ فهو من ناحيةٍ يرمي إلى كسب الوقت وإلهاء فرسان القديس يوحنا لعدَّة شهور إلى حين الانتهاء من أمر الجزر الأيونيَّة، ويرمي من ناحيةٍ أخرى إلى دخول جزيرة رودس بوفدٍ عثمانيٍّ يُمكن له دراسة الحالة العسكريَّة للجزيرة، وبالتالي تقويم عمليَّة اقتحام الحصون بشكلٍ أوضح.
انطلاقًا من هذه الرؤية أرسل الفاتح سفارةً عثمانيَّةً رفيعة المستوى إلى رودس في صيف 1479م، على رأسها الأمير چم (Cem أو Jem) ابن السلطان الفاتح، وهو في الوقت نفسه أمير قرمان؛ يعرض على أمير تنظيم الفرسان بيير دي أوبسون Pierre d'Aubusson عقد معاهدة سلام في مقابل جزيةٍ سنويَّةٍ يدفعونها للدولة العثمانيَّة. لم يأتِ الرفض مباشرًا من الفرسان؛ إنَّما تعلَّل أميرهم بأنه لا بُدَّ أن يرجع إلى البابا أوَّلًا، وإلى القوى الأوروبيَّة الغربيَّة، وذلك قبل أخذ مثل هذا القرار[22].
كان العثمانيُّون متأكدِّين أنَّ فرسان القديس يوحنا سيرفضون دفع الجزية لهم؛ لأنَّهم في المقام الأوَّل يستمدُّون بقاءهم من كونهم يدَّعون الوجود لحماية الحجَّاج المسيحيين الذاهبين إلى بيت المقدس، وكذلك يدَّعون الدفاع عن الأماكن المقدَّسة في فلسطين، ويدَّعون الوجود للوقوف في وجه القوى الإسلاميَّة الكبرى في المنطقة، وهذا الادِّعاء سيسقط بالكامل في حالة تسليمهم بالتبعيَّة للدولة العثمانيَّة الإسلاميَّة، وبالتالي يسقط السبب في وجودهم.
لم يكن العثمانيُّون إِذَنْ غاضبين من تأجيل فرسان القديس يوحنا للردِّ، فهذا التأجيل هو عين ما تُريد الدولة العثمانيَّة، ولهذا تركت الدولة عدَّة أسابيع تمضي، ثم أرسلوا سفارةً أخرى يعرضون فيها أن تدفع جزيرة رودس الجزية في صورة هديَّة في مقابل عقد السلام بين الطرفين، ومن جديد رفض الأمير بيير عَرْضَ العثمانيِّين[23]، وكان هذا يعني تمديد الوقت لمدَّةٍ أخرى، وبالتالي يُمكن للدولة العثمانيَّة أن تتحرَّك في اتِّجاه الجزر الأيونيَّة.
ومن الواضح أنَّ فرسان القديس يوحنا أدركوا أنَّ الدولة العثمانيَّة تشتري الوقت فقط، وأنَّهم على أبواب حربٍ مفتوحةٍ معهم، ولهذا سارعوا بأخذ تدابيرهم لمقاومة الغزو المحتمل، فكان من هذه التدابير أن عقدوا معاهدة سلام جديدة مع السلطان قايتباي سلطان المماليك المصريَّة، الذي كان لا يرغب في وجود العثمانيِّين في رودس لِئلَّا يكون طريقهم مفتوحًا إلى مصر؛ حيث لا يفصل رودس عن مصر أيُّ جزرٍ أو عوائق. ولم تكن هذه هي معاهدة السلام الوحيدة التي عقدها فرسان القديس يوحنا مع العالم الإسلامي؛ فقد عقدوا واحدةً أخرى مع السلطان أبي عمرو عثمان الحفصي سلطان الحفصيين في تونس، وذلك لتوفير ثلاثين ألف مثقال من القمح دون جمارك[24][25]، وهذا بالطبع مطلوبٌ لتوفير المؤن للجزيرة في حال حصارها، وكان من الواضح أنَّ التواصل الدبلوماسي مقطوعٌ -أو غير واضح- بين الدول الإسلاميَّة المختلفة؛ فنحن نرى مثل هذه المعاهدات بين نصارى رودس، أو نصارى قبرص، أو نصارى البندقية وچنوة، وبين المماليك في مصر، أو الحفصيين في تونس، أو الآق قوينلو في إيران، ولكن لا نراها بين الدولة العثمانيَّة وهذه الأقطار، وهذا أمرٌ في الواقع يحتاج إلى دراسةٍ وتحليل؛ لأنَّ الأثمان التي كانت تدفعها الأمَّة نتيجة مثل هذه الرؤى المتضاربة، وعدم الوفاق السائد، كانت أثمانًا باهظةً للغاية.
عمومًا نجحت السياسة العثمانيَّة في تأجيل الصدام مع فرسان رودس، ممَّا جعل فرصة نجاحهم في السيطرة على الجزر الأيونيَّة أكبر، وكان هذا هو هدف المرحلة..
وكما سلك الفاتح طريق السلام مع البندقية ورودس، سلك الطريق نفسه مع فلورنسا الإيطاليَّة، وذلك في محاولةٍ لكسر الاتِّحاد المتوقَّع بين الدول الإيطاليَّة المختلفة عند غزوه لنابولي وروما، والواقع أنَّ الفاتح لم يَسْعَ لخلق الظروف التي تسمح بمثل هذا السلام، ولكنَّ فلورنسا هي التي سعت من أجل ذلك، ولأنَّ الفاتح كان يُريده، فإنَّه استغلَّ الفرص المتاحة كأفضل ما يكون، وهو ما قلناه عند الحديث عن امتناع الجزر الأيونيَّة عن دفع الجزية، فإنَّ الفاتح استغلَّ هذا الامتناع لإيجاد المسوِّغ لغزو الجزر، وهو هنا يستغلُّ حدثًا عابرًا ليُحقِّق به نتائج كبرى! والقصة بإيجاز هي حدوث صراعٍ داخليٍّ في جمهوريَّة فلورنسا كان من نتيجته قتل چوليانو دي ميدتشي Giuliano de' Medici، وهو أخو رئيس الجمهوريَّة لورينزو دي ميدتشي Lorenzo de' Medici[26]، وحيث إنَّ لورينزو كان أحد أهمِّ حكَّام أوروبا في ذلك الوقت، وكان أخوه مشاركًا له في الحكم[27]، فإنَّ الحدث كان كبيرًا للغاية، وخاصَّةً أنَّ الاغتيال كان نتيجة مؤامرة واسعة النطاق تستهدف حكم عائلة ميدتشي بأكمله[28].
ولأنَّ الله يُريد أن يُعطي فرصةً طيِّبةً للدولة العثمانيَّة، فإنَّه ساق قاتل چوليانو -وهو بيرناردو بانديني Bernardo Bandini- إلى الهرب عند أقارب له في إسطنبول! أمسكت المخابرات العثمانيَّة القاتل ربيع 1479م، وأعلمت السلطات الفلورنسيَّة بوجوده، وبالتالي أرسلت فلورنسا رسالةً مفعمةً بالتقدير والتوقير والتفخيم للسلطان الفاتح، ومعها مجموعةٌ من أثمن الهدايا، تطلب تسليم القاتل. وَعَدَ السلطان الفاتح بتسليم الجاني إلى السلطات الفلورنسيَّة ولكنَّه أجَّل هذا التسليم إلى منتصف أغسطس 1479م[29]، ويبدو أنَّ الغرض من التأجيل هو الإعداد لعملٍ كبيرٍ في شهر أغسطس، سواءٌ في الجزر الأيونية أم في غيرها، وكان الفاتح يُريد تحييد فلورنسا خلال هذا العمل، ولهذا آثر التأجيل، ثم بالفعل سلَّم القاتل في هذا الوقت المحدَّد، وقد ردَّت فلورنسا بإهداء السلطان الفاتح ميدالية كبيرة فخمة للغاية صمَّمها خصيصًا واحدٌ من أشهر الفنَّانين في فلورنسا، وهو بيرتولدو دي چيوڤاني Bertoldo di Giovanni[30].
هكذا اكتسب الفاتح صديقًا إيطاليًّا في وقتٍ حرج، فصار إلى حدٍّ كبيرٍ يأمن جانبي البندقية، وفلورنسا، وهما من أقوى الجمهوريَّات الإيطاليَّة آنذاك!
واستخدم الفاتح الأسلوب نفسه مع إمارة البغدان!
لقد دخل تمرُّد البغدان عامه السادس، فهو لا يدفع الجزية منذ عام 1473م، بل تطوَّر التمرُّد إلى صدامٍ عسكريٍّ متكرِّر، ولم يستطع الفاتح أن يحلَّ المشكلة بشكلٍ حاسم، ومع أنَّه انتصر في معركة الوادي الأبيض على جيش استيفين الثالث أمير البغدان، فإنَّه لم يستطع أن يجنِ ثمار النصر للأسباب التي ذكرناها آنذاك، وهكذا استمرَّ التمرُّد حتى لحظتنا هذه، ومع هذا فقد تركت معاهدة البندقية ظلالها على إمارة البغدان كما تركتها على كامل أوروبا؛ فأرسل استيفين الثالث -كما أسلفنا- طلبًا بعودة التبعيَّة مع مضاعفة الجزية.
في هذا الظرف الذي يُريد فيه الفاتح أن يُفرِّغ نفسه تمامًا لمسألة الجزر الأيونيَّة ثم إيطاليا وافق الفاتح على طلب استيفين الثالث بتجديد الولاء، وعُقِدَت بالفعل معاهدةٌ جديدة[31]. كان الفاتح يعلم أنَّ استيفين الثالث غير مأمون، بل لعلَّ السلطان كان متأكِّدًا أنَّ الأمير البغداني لن يفي بوعده، ولن يلتزم بالمعاهدة أبدًا، خاصَّةً أنَّ استيفين ما زال معاهدًا لمملكتي بولندا والمجر، وحيث إنَّ الحرب بين الدولة العثمانيَّة والمجر وشيكةٌ فإنَّه من المتوقَّع أن يتنصَّل من معاهدته الجديدة مع العثمانيِّين. كان الفاتح يعلم كلَّ هذا، ومع ذلك فقد وافق على التَّعاهد مع استيفين ليشتري الوقت حتى ينتهي من مسألة الجزر الأيونيَّة وإيطاليا، ولم يطلب الفاتح من استيفين أن يدفع ما سبق من جزية، ولا طلب منه أن يدفع جزية عام 1479م نفسه، وهو الذي تم فيه التعاهد، بل قَبِل تأجيل ذلك كلِّه، وكان هدف الفاتح هو تسهيل عمليَّة المعاهدة حتى يستمرَّ استيفين في هدوئه أطول فترةٍ ممكنة.
يُمكن لنا بعد هذا الشرح لهذه الأحداث التي تمَّت في أواخر ربيع وبداية صيف 1479م، أن نتصوَّر الوضع الذي آلت إليه الأمور في شهر أغسطس 1479م:
أولًا: الأمور هادئةٌ ومستقرَّةٌ على جبهة البندقية بكلِّ تفريعاتها وحدودها.
ثانيًا: جمهوريَّة فلورنسا على وفاقٍ مع الدولة العثمانيَّة، وحيث إنَّها أصلًا على خلافٍ مع مملكة نابولي، فلا ينتظر وحدةً مخيفةً في إيطاليا بين الدول الإيطاليَّة المختلفة.
ثالثًا: جبهة البغدان هادئةٌ إلى حدٍّ ما.
رابعًا: جبهة رودس هادئةٌ نسبيًّا، ومباحثات السلام ما زالت دائرة.
خامسًا: الجزر الأيونيَّة ممتنعة من دفع الجزية، والرسل منقطعة من عند الفاتح، تمهيدًا لأخذ قرارٍ عسكريٍّ بغزوها.
هكذا صار الوضع مناسبًا لحملةٍ عسكريَّةٍ بحريَّةٍ على الجزر الأيونيَّة تهدف إلى غزوها، والاستقرار العسكري فيها، تمهيدًا للانطلاق منها إلى إيطاليا بعد ذلك.. لم يكن هناك ما يُنغِّص هذا التسلسل المنطقي للأحداث إلَّا أمرٌ واحد، وهو ردُّ فعل مملكة المجر!
إنَّ المجر لن تسكت بحالٍ على غزو إيطاليا، ومهما كانت العلاقة متوتِّرة مع البابا أو الجمهوريَّات الإيطالية، فإنَّ سقوط إيطاليا -بكلِّ تاريخها المسيحي- سيُعطي دفعةً قويَّةً للغاية للدولة العثمانيَّة، وقد تكون نتيجة هذه الدفعة سقوط المجر كذلك في يد العثمانيِّين، ولهذا من المتوقَّع أن يتحرَّك ملك المجر ماتياس تحرُّكًا عسكريًّا مزعجًا عند إدراكه لمخطَّطات العثمانيِّين في الجزر الأيونيَّة وإيطاليا، خاصَّةً أنَّ استعدادات المجر العسكريَّة لصدامٍ مع الدولة العثمانيَّة واضحة وعلى أكثر من مستوى كما شرحنا قبل ذلك، لذلك وجب على السلطان الفاتح أن يتعامل بجدِّيَّة مع ملفِّ المجر، بحيث يكون هو الطرف الفاعل الذي يُحرِّك الأحداث، وليس الطرف الذي ينتظر فعل الآخرين ليتحرَّك بردِّ فعلٍ بعد ذلك. هكذا يُمكن للفاتح أن يختار التوقيت والمكان الذي يحدث فيه الصدام، أمَّا إذا انتظر، فقد يأتيه الصدام في مكانٍ لا يُريده، أو في وقتٍ لا يتمنَّاه.
هذا التحليل أجبر الفاتح على اتِّخاذ خطوةٍ عسكريَّةٍ قويَّةٍ ضدَّ المجر في الوقت نفسه الذي تتحرَّك فيه الأساطيل ناحية الجزر الأيونيَّة، وهذا هو الذي يُمكن أن يضمن أكبر نجاحٍ للحملة البحريَّة، علمًا بأنَّ الفاتح لا يهدف في تحرُّكه ضدَّ المجر اكتسابَ أراضٍ جديدة، أو تحقيقَ انتصاراتٍ ضخمة؛ ولكنَّ الغرض الرئيس سيكون إلهاء المجر عن خطوات العثمانيِّين في البحر الأدرياتيكي.
ماذا فعل الفاتح رحمه الله؟!
صدرت الأوامر بتحرُّكٍ متزامنٍ لجيشين في وقتٍ واحد: أمَّا الأوَّل فهو الجيش العثماني المرابط في البوسنة؛ ليقوم بغارةٍ فجائيَّةٍ على الأراضي المجريَّة، وأمَّا الثاني فهو الأسطول العثماني الرئيس، وهو تحت قيادة أمير البحر كديك أحمد باشا؛ ليتحرَّك من مدينة ڤالونا Valona (الآن اسمها ڤلور Vlore بألبانيا)، وكانت وجهة هذا الجيش الجزر الأيونيَّة التَّابعة للأمير ليوناردو الثالث.
بالنسبة إلى الجيش الأوَّل، وهو الجيش البرِّي، فقد اقتحم كرواتيا في آخر شهر أغسطس ليُهاجم أحد المراكز الأمنيَّة الواقعة في شمال كرواتيا عند مدينة ڤارازدين Varaždin، ثم عبر الجيش نهر دراڤا Drava ليقتحموا الحدود الكرواتيَّة السلوڤينيَّة، وهناك هاجموا مدينة ليوتومير Ljutomer شرق سلوڤينيا، ثم توَّغلوا أكثر حتى اقتحموا الحدود السلوڤينيَّة المجريَّة، وقاموا بغارةٍ كبيرةٍ على غرب المجر، حتى وصلوا إلى نهر رابا Raba قريبًا من الحدود المجريَّة النمساويَّة[32]، بل تذكر بعضُ المصادر أنَّ الجيش العثماني دخل بالفعل الحدود النمساويَّة موسِّعًا نطاق غارته إلى درجةٍ كبيرة[33]، وقد عاد هذا الجيش المنتصر بعددٍ كبيرٍ من الأسرى، وذكر بابينجر أنَّه كان بالآلاف[34]!
فوجئ ملك المجر بالهجوم العثماني، لكنَّ ردَّ فعله كان سريعًا؛ إذ أرسل فرقةً عسكريَّةً مجريَّةً قوامها سبعة آلاف مقاتل هاجمت مدينة سراييڤو في البوسنة، وقامت بحرق المدينة، وحملت كميَّةً كبيرةً من الغنائم، ومع ذلك فقد اعترض طريق عودتها جيشٌ عثمانيٌّ بقيادة داود باشا، وبعد معركةٍ كبيرةٍ كانت خسائرها جسيمة على الطرفين استطاع الجيش العثماني استرداد كلِّ الغنائم، بينما هربت الفرقة المجريَّة عائدةً إلى بلادها[35].
هذه الغارات المتبادلة كانت في نهاية شهر أغسطس، وفي سبتمبر من عام 1479م..
وفي الوقت نفسه كان الأسطول البحري يتحرَّك من مدينة ڤلور الألبانيَّة بقيادة كديك أحمد باشا متَّجهًا جنوبًا إلى الجزر الأيونيَّة.
اتَّجه الأسطول العثماني المكوَّن من تسعٍ وعشرين سفينةً حربيَّة[36] جنوبًا بمحاذاة الساحل الألباني (خريطة رقم 16)، حتى وصل إلى خليج كورفو، وهو الخليج الفاصل بين جزيرة كورفو التابعة للبندقيَّة والأراضي الأساسيَّة لليونان، وشاطئ اليونان في هذه المنطقة تابعٌ للبندقيَّة كذلك، فهذا يعني أنَّ الأسطول العثماني سار في مياه إقليميَّة بندقيَّة.
وكما كان متوقَّعًا فقد التقى أسطول العثمانيِّين والأسطول البندقي، ومع احتمال حدوث اعتراض من البنادقة على اختراق العثمانيِّين لمياههم دون إِذْنٍ إلَّا أنَّ قائد الأسطول البندقي تجاوز عن هذا الأمر، وعَدَّ الأسطول العثماني مضطرًّا إلى هذا الاختراق لتقليل الوقت والمجهود؛ فهذا هو أقصر الطرق إلى الجزر الأيونيَّة في الجنوب، التي يتَّجه إليها الجيش العثماني، ولم يكتفِ القائد البندقي بالسكوت، بل أطلق بعض علامات التحيَّة للأسطول العثماني ممَّا أثار دهشة الجنود البنادقة أنفسهم[37]! والواضح أنَّ الأوامر التي كانت عند قائد الأسطول البندقي كانت تقضي بعدم إثارة العثمانيِّين بأيِّ طريقة؛ فالثمن الذي دفعته البندقية من أجل السلام مع الدولة العثمانية باهظٌ جدًّا، وليس للجمهوريَّة رغبةٌ في فَقْدِ هذا السلام مهما كان الأمر. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فإنَّ البندقية تَعُدُّ عدوَّها الأكبر الآن هو مملكة نابولي، وحيث إنَّ العثمانيِّين سيقومون بغزو الجزر الأيونيَّة التابعة للأمير ليوناردو الثالث، الذي هو بدوره تابعٌ لمملكة نابولي، فإنَّ البنادقة لن يُمانعوا في هذا التطوُّر للأحداث.
غير أنَّ القائد البندقي قرَّر القيام بعملٍ لا أعتقد أنَّه تلقَّى به أوامر مباشرة من قيادته في البندقية، وهو أنَّه سارع بأسطوله ونزل في جزيرة زانتي Zante (اسمها الآن زاكينثوس Zakynthos)، وأنزل خمسمائةً من الفرسان محتلًّا بذلك الجزيرة[38].
لم يكن الأسطول العثماني متَّجهًا إلى هذه الجزيرة الآن؛ إنَّما كان متوجِّهًا إلى جُزر ليفكاس Lefkas (اسمها الآن ليفكادا Lefkada )، وكيفالونيا Cephalonia، وإيثاكا Ithaca، فهذه هي الجزر الأولى التي تُقابله من الشمال إلى الجنوب، ولكن من المؤكَّد أنَّه سيُكمل طريقه بعد ذلك لاحتلال زانتي كذلك، وعندها سيحدث صدامٌ أو توتُّرٌ مع الأسطول البندقي هناك.
لماذا خطا الأسطول البندقي هذه الخطوة التي قد تُصعِّد الأمور بين البنادقة والدولة العثمانيَّة؟
يُفسِّر ذلك چون فريلي John Freely بأنَّ 40% من سكَّان جزيرة زانتي هم من أصولٍ بندقيَّة، والبقيَّة من اليونانيِّين، ولذلك سارع الأسطول البندقي إلى احتلال الجزيرة حمايةً للسكان البنادقة[39]، وأيًّا كان الأمر فإنَّ هذا الإجراء صار كالقنبلة الموقوتة التي يُمكن أن تنفجر في أيِّ لحظة؛ لأنَّ العثمانيِّين لا يُريدون البنادقة في جزرٍ جديدةٍ في الأدرياتيكي.
وصل الأسطول العثماني إلى جزيرة ليفكاس في يوم 17 أغسطس 1479م[40]، فاحتلَّها دون مقاومةٍ تُذكر، وعندما أدرك ليوناردو الثالث أمير هذه الجزر أنَّ الأسطول العثماني جادٌّ في احتلال كلِّ الجزر، وأنَّ ملك نابولي لن يُقدِّم له دعمًا في هذه المواجهة، قرَّر الهرب بسرعة إلى إيطاليا! حمل ليوناردو الثالث أسرته؛ زوجة وثلاثة أبناء، وكلَّ ما استطاع حمله من ثروةٍ وكنوز، وانطلق لاجئًا إلى نابولي تاركًا شعبه لمصيره[41]!
وصل الأسطول العثماني إلى كيفالونيا في يوم 26 أغسطس[42]، ومنها إلى جزيرة إيثاكا، وكما حدث مع جزيرة ليفكاس كان الوضع في هاتين الجزيرتين؛ حيث سيطر العثمانيُّون عليها دون مقاومةٍ لخلوِّها من الجيش تقريبًا بعد هروب أميرهم[43].
بقي الجزء الأخطر من المسألة، وهو التوجُّه جنوبًا إلى جزيرة زانتي؛ حيث من المتوقَّع أن يحدث صدامٌ مع الأسطول البندقيِّ هناك. وصل الأسطول العثماني إلى زانتي في 8 سبتمبر 1479م[44]، وكما كان متوقَّعًا حدثت مواجهةٌ متوتِّرةٌ بين قائد الأسطول البندقي وكديك أحمد باشا قائد الأسطول العثماني، ورفض البنادقة إخلاء الجزيرة، وكاد القتال يحدث لولا أنَّ القائد العثماني قرَّر رفع الأمر إلى الباب العالي؛ لأنَّ حدوث القتال يعني إنهاء السلام مع البندقية، وهذا تطوُّرٌ خطرٌ للغاية، ومِنْ ثَمَّ كان لا بُدَّ من الرجوع للقيادة الأعلى.
وصل النبأ بسرعةٍ إلى السلطان الفاتح في إسطنبول، الذي استدعى من فوره سفير البندقية بينيدتو تريڤيسانو Benedetto Trevisano ليتداول معه الأمر. تصرَّف السفير البندقي بلباقة، وقدَّر خطورة الموقف، ووافق على إصدار أوامره إلى الأسطول البندقي بإخلاء الجزيرة، ولكنَّه طلب من السلطان الفاتح أن يسمح لهم بأخذ السكَّان البنادقة من جزيرة زانتي معهم إلى مستعمراتهم في المورة، فوافق السلطان على ذلك[45]، جاءت السفارة من إسطنبول إلى زانتي في 23 سبتمبر بهذه الأخبار، وعلى الفور أخلى البنادقة الجزيرة من الجيش، وأخذوا معهم السكَّان البنادقة، ونزل الجيش العثماني إلى الجزيرة، وعُدَّت زانتي من ذلك الحين منطقةً عسكريَّة، ومِنْ ثَمَّ أُخْلِيَت من السكَّان اليونانيِّين كذلك؛ حيث أسكنتهم السلطات العثمانيَّة في بعض الجزر في بحر مرمرة[46].
هكذا صار للدولة العثمانيَّة -ولأوَّل مرَّةٍ في تاريخها- قاعدةٌ في مدخل الأدرياتيكي، وهي تشمل أربع جزرٍ من الجزر الأيونيَّة؛ وهي من الشمال إلى الجنوب: ليفكاس، ثم كيفالونيا، وإيثاكا، وأخيرًا زانتي، وفوق ذلك فإنَّ العثمانيِّين صاروا يمتلكون أيضًا عدَّة موانئ على الأدرياتيكي، سواءٌ في اليونان، أم في ألبانيا، وهذ كلُّه يصبُّ في توفير فرص النجاح لعمليَّة فتح إيطاليا، حُلْم الفاتح في هذه المرحلة من حياته.
هكذا استقرَّت الأوضاع في جبهة الأدرياتيكي، لكنَّها لم تستقر في الواقع في جبهة المجر! فالغارات المتبادلة بين الفريقين كانت قويَّةً ومؤثِّرة، ولا يبدو أنَّ ملك المجر سيقنع بحالةٍ من الهدوء تسمح للفاتح يتفريغ جهده لغزو إيطاليا، هذه هي جبهة المجر، ومثلها يُمكن أن يُقال على جبهة رودس؛ فأميرها ما زال يرفض دفع الجزية والسلام مع العثمانيِّين، ممَّا يعني أنَّ حالة الحرب المعلنة منذ فترةٍ بين الدولتين ما زالت مستمرَّة، ومِنْ ثَمَّ فالقتال متوقَّعٌ كذلك في أيِّ لحظة.
لم يُرِد الفاتح أن ينتظر الفعل من المجر أو رودس فقرَّر أن يبدأ هو باختيار المكان والوقت الذي يحدث فيه الصدام. لم يشأ الفاتح أن يُقاتل القوَّتين معًا، فاختار أن ينتهي من ملفِّ المجر أوَّلًا لكون الحرب مشتعلة بالفعل معها، فأصدر أوامره بتحرُّكٍ جديدٍ للجيش العثماني، وهذه المرَّة كان التوجُّه إلى ترانسلڤانيا شرق مملكة المجر (الآن في وسط رومانيا).
تكوَّن الجيش العثماني من اثنتي عشرة فرقةً عسكريَّةً على رأسها اثنا عشر قائدًا من كبار قادة الجيش العثماني، وعلى رأس هؤلاء جميعًا علي بك ومعه عيسى بك وآخرون، وكان التجمُّع في مدينة سمندرية، وكان عددهم ثلاثةً وأربعين ألف مقاتلٍ في بعض المصادر[47][48]، بينما قدَّرتهم مصادرُ أخرى بخمسة عشر ألف مقاتل إلى عشرين ألفًا[49]. عَبَرَت هذه القوَّات نهر الدانوب عند مدينة أورسوڤا Orsova الرومانيَّة، واتَّجهت شمالًا بسرعةٍ مخترقةً إمارة الإفلاق التابعة للعثمانيِّين، والتحقت بها فرقةٌ من الرومانيِّين الإفلاقيِّين تحت زعامة أمير الإفلاق باساراب الأصغر، وكان قوامها خمسة آلاف مقاتل[50]، ومن فورها دخلت الفرقة إمارة ترانسلڤانيا شمال الإفلاق، وهي إمارةٌ تابعةٌ للمجر، وعلى رأسها القائد المجري الشهير استيفين باثوري.
يُسوِّغ بابينجر اختيار العثمانيِّين لترانسلڤانيا دون غيرها من الأراضي المجريَّة بأنَّهم كانوا يرغبون في السيطرة على مناجم الذهب والفِضَّة هناك، وكذلك على مستودعات الملح[51]، ولكنِّي لا أعتقد أنَّ هذا كان الهدف؛ أوَّلًا لأنَّه ليس هناك دليلٌ نقليٌّ مباشرٌ يُشير إلى هذا الأمر، وثانيًا لأنَّ المسوِّغات العسكريَّة والاستراتيجيَّة متوفِّرة؛ فترانسلڤانيا في موقعٍ خطرٍ للغاية بالنسبة إلى الدولة العثمانيَّة؛ لأنَّها على حدود الإفلاق، التي تشهد دومًا اختراقات من ترانسلڤانيا أو البغدان، وتشهد حركة تغييرات في قيادتها تضرُّ بالدولة العثمانيَّة، وبالتالي تُصبح سيطرة العثمانيِّين على ترانسلڤانيا، أو إضعاف قوَّتها هدفًا يُمكن أن يُؤدِّي إلى استقرار الإفلاق، وأيضًا تقع ترانسلڤانيا على الحدود الغربيَّة لإمارة البغدان، فتكون الحملة هناك فيها إشارةٌ قويَّةٌ لاستيفين الثالث أمير البغدان بأن يفي بوعده في دفع الجزية، وإلَّا تجاوزت الحملة بعد ذلك حدود ترانسلڤانيا إلى البغدان، وكذلك هناك سببٌ استراتيجيٌّ آخر، وهو الردع لاستيفين باثوري الحاكم العسكري لترانسلڤانيا؛ حيث كان مشتركًا قبل ذلك في حرب العثمانيِّين إلى جانب دراكولا الثالث، وذلك في عام 1476م كما مرَّ بنا. يُضاف إلى كلِّ ما سبق أنَّ ترانسلڤانيا تقع في أقصى شرق مملكة المجر، فهي بعيدةٌ نسبيًّا عن قوَّة المجر الرئيسة المتمركزة في بودابست، بالإضافة إلى بُعْدِها النسبي كذلك عن جيش المجر الجنوبي بقيادة بول كينيزي، والمتمركز في تيميشوارا Timișoara (حوالي مائتي كيلو متر أو أكثر من وسط ترانسلڤانيا)، ممَّا يجعل الدفاع عنها أصعب.
كان الجيش العثماني يعتمد على المفاجأة وسرعة الحركة، مع القيام بعمليَّات تدميرٍ لعددٍ من المراكز في طريقهم، ممَّا يُلقي الرُّعب في قلوب جيش باثوري، ولقد كان الجيش العثماني قادرًا في هذه الهجمة السريعة على حمل كميَّةٍ كبيرةٍ من الغنائم، وأسر عددٍ كبيرٍ من الرجال، والتحرُّك السريع في اتِّجاه مدينة سيبيو Sibiu التي يُعسكر فيها باثوري[52].
عسكر الجيش العثماني عند قريةٍ صغيرةٍ اسمها شيبوت Șibot[53] في وادٍ فسيحٍ اسمه كينيرميزو Kenyermezö، وهي كلمةٌ تعني بالمجريَّة «حقل الخبز»، ولهذا تُعرَف المعركة التي دارت عند هذا الوادي بمعركة حقل الخبز Battle of Breadfield، والكلمة أيضًا تُعرف بالرومانيَّة بكامبل بيني Câmpul Pâinii، فهذه كلُّها أسماءٌ لمـَعْلَمٍ واحدٍ هو هذا الحقل الفسيح[54]، ومن المحتمل أن يكون الحقل مزروعًا بالقمح، ومن هنا أخذ اسمه، وهو قريبٌ جدًّا من نهر موريش Mureș، وعلى بُعْد حوالي خمسة وستين كيلو مترًا من مدينة سيبيو التي يُعسكر فيها استيفين باثوري.
في صباح يوم 13 أكتوبر 1479م ظهر جيش استيفين باثوري أمام المعسكر العثماني[55]، ووقف الجيشان أمام بعضهما البعض مدَّة ثلاث ساعات دون قتال! هذا الانتظار من الجيش المجري كان مفهومًا لكونه أقلَّ في العدد من الجيش العثماني، لكن بطء الجيش العثماني لم يكن مبرَّرًا بالشكل الكافي، ويُرْجِع بابينجر هذا البطء لكون الجيش العثماني محمَّلًا بالغنائم الكثيرة فلم يُرِد الحركة حفاظًا على معسكره المثقل بالثروات، كما يُرْجِع ذلك أيضًا إلى كثرة القيادات في الجيش ممَّا أحدث بينهم الاختلاف، وهذه الأسباب التي ذكرها بابينجر منطقيَّة، وهي تُفسِّر حالة التردُّد التي كان عليها العثمانيُّون في هذه المعركة. في نهاية الأمر وبعد ثلاث ساعاتٍ من الانتظار هجم الجيش المجري على العثماني، لتدور معركةٌ شديدةٌ في خلال الساعات الثلاثة التالية. في هذه المعركة كان النصر حليفًا للجيش العثماني بشكلٍ واضح، فقد قُتِل عددٌ كبيرٌ من المجريِّين، وهرب آخرون، بينما غرق فريقٌ ثالثٌ في نهر موريش، ووصل الأمر إلى إصابة استيفين باثوري نفسه عدَّة إصابات، وكان قريبًا جدًّا من الموت عندما قُتِل الحصان الذي يُقاتل عليه. هكذا كان اليوم يسير في صالح العثمانيِّين بشكلٍ كبيرٍ لولا الظهور المفاجئ للقائد المجري الشهير بول كينيزي! كان قائد منطقة الجنوب يُسابق الريح من منطقة تمركزه في تيميشوارا إلى أرض المعركة في شيبوت، وكان من الواضح أنَّه يُدرك خطَّ سير الجيش العثماني، بينما لم يعلم العثمانيُّون بتحرُّكات هذا القائد وجيشه، ولهذا كان وقع المفاجأة كبيرًا للغاية على الجيش العثماني، ولقد كان توقيت وصوله عجيبًا؛ إذ إنَّه لو وصل بعد هذا التوقيت بساعاتٍ قليلةٍ لوجد أنَّ الأمر قد انتهى تمامًا لصالح العثمانيِّين، ولكن حدث هذا ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا! ظهر جيش بول كينيزي على تلٍّ مرتفعٍ خلف الجيش العثماني، وكان الجيش كبيرًا، وفي صحبته تسعمائةٌ من الجنود الصربيِّين تحت قيادة ديميتر چاكسيك Dmitar Jakšić، وقد نزلوا مسرعين من فوق التلِّ، بصيحاتٍ مفزعة، وأصوات موسيقى عسكريَّة صاخبة، وأحاطوا من فورهم بالجيش العثماني[56]. جعل بول كينيزي هدفه الأوَّل هو إنقاذ استيفين باثوري، فأدركه بسرعة، وقتل كلَّ من اعترض طريقه، ووصل إلى باثوري الجريح، فحمله وأبعده عن ساحة القتال، وأعاد هذا العمل الروح للجيش المجري فقام منتفضًا لاستكمال القتال[57].
لم تستغرق المعركة وقتًا طويلًا بعد هذه المفاجأة، وكانت مناورة الجيش العثماني ضعيفةً للغاية، وسيطر المجريُّون على الموقف، وقُتِل عددٌ كبيرٌ للغاية من العثمانيِّين، قدَّره بابينجر بثلاثين ألف جندي[58]، وهو رقمٌ كبيرٌ للغاية، ويُمكن أن يكون صحيحًا لو كان عدد الجيش العثماني ثلاثة وأربعين ألفًا كما ذكرت الرواية نفسها، والواقع أنَّ الخسارة العثمانيَّة كانت كبيرةً جدًّا حتى لو كانت أقلَّ من هذا الرقم المذكور؛ لأنَّ محاولات العثمانيِّين لاختراق ترانسلڤانيا توقَّفت بعد هذه المعركة لقرابة خمسين سنةً كاملةً!
تصف موسوعة أكسفورد المعركة بأنَّها واحدةٌ من أكبر المعارك التي حدثت بين المجر والدولة العثمانيَّة في القرن الخامس عشر، ومن أكثرها دمويَّة[59]، ويُعلِّق عليها المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون بقوله: «حقَّقت المجر واحدةً من أكبر الانتصارات اللافتة للنظر في تاريخ حروبها مع الأتراك»[60].
وتُعَدُّ المعركة نموذجًا للتفاوت بين المؤرِّخين في توصيف الأحداث، فكلٌّ حسب انتمائه ووطنه! فنجد المؤرِّخ المجري بال إنچل Pál Engel يقول: «في هذه المعركة دُمِّر الجيش العثماني»[61]. وعلى الحدث نفسه نجد المؤرِّخ التركي يلماز أوزتونا يُعلِّق بقوله: «في عام 1479م دخل ثلاثةٌ وأربعون ألفًا من الصاعقة المجر لإخضاعها، واشترك في هذه الحملة اثنا عشر من البكوات بقيادة علي باشا»[62]! هكذا دون تعليقٍ على نصرٍ أو هزيمة!
تركت المعركة أثرًا كبيرًا للغاية في التاريخ المجري، حتى صارت الوحشيَّة التي مارسها الجيش المجري في هذه المعركة فخرًا تتناقله المصادر والمراجع، بل عملًا مجيدًا يهتمُّ به الأدباء وأهل الفلكلور! ويشرح ذلك المؤرِّخ المجري نينون ليدر Ninon Leader عند وصفه لرغبة الجنود المجريِّين في الاحتفال بنصرهم بعد المعركة فيقول: «صنع الجنود المجريُّون موائد طعامهم من كومات أجساد القتلى الأتراك، وبعد أن أكلوا وشربوا حتى الثمالة أخذوا في الغناء ومديح قادتهم في أغنيَّاتٍ مرتجلة، وعندما قاموا بدعوة القائد بول كينيزي لمشاركتهم، جذب هذا القائد أحد الأتراك الأموات بأسنانه، ورقص في وسط حلقةٍ من الجنود وهو يحمل هذا الميِّت ولمدَّةٍ طويلة»[63]!
ويُؤكِّد المؤرِّخ الألماني ريتشارد أوتز Richard Utz أنَّ هذه الصورة الدمويَّة دخلت في الفلكلور الشعبي المجري إلى درجة أنَّ أغانيهم إلى يومنا هذا ما زالت تُردِّد هذا الوصف لهذه المجزرة، وتُمجِّد في هذا القائد الذي يرقص وهو يحمل جثةً بين أسنانه[64]!
قُتِل في هذه المعركة عيسى بك أحد كبار القادة العثمانيِّين[65]، بينما استطاع قائد الجيش علي باشا أن يهرب إلى الإفلاق، وتمكَّن عددٌ قليلٌ من الجنود العثمانيِّين من التسلُّل عبر الجبال[66]، وغَنِمَ المجريُّون كلَّ ما في المعسكر العثماني من متاعٍ وسلاحٍ ومال[67].
هكذا انتهت هذه الحملة الكبيرة بهذه النهاية المفجعة!
ولنا على هذه الحملة عدَّة تعليقات..
أوَّلًا: كأنِّي أرى موقعة «بلاط الشهداء» تعود إلى أرض الواقع من جديد! فهذه الموقعة التي وقعت على أرض فرنسا بين المسلمين والفرنسيِّين عام (114 هـ= 732م)، كانت تُشبه موقعه حقل الخبز في نقاطٍ كثيرة؛ منها أنَّها كانت في أرض العدوِّ بعد اقتحامٍ جريء، ومنها أنَّ النصر كان حليف المسلمين في أوَّل الموقعة بشكلٍ واضح، ومنها أنَّ المسلمين في نهاية المطاف تردَّدوا في حسم المناورة بسبب حرصهم على الغنائم التي معهم، ومنها أنَّ الخلاف بين القادة كان سببًا في الهزيمة، ومنها أنَّ الآثار كانت كبيرةً ومستمرَّةً إلى عدَّة عقودٍ أو قرون[68].
وحقًّا.. إنَّ التاريخ يُكرِّر نفسه!
ولا تزال موانع النصر هي حبُّ الدنيا، والخلاف بين المسلمين..
ومثاله في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152].
لقد رأى المسلمون في موقعة حقل الخبز في أوَّلها «ما يُحبُّون».. رأوا النَّصر والسيطرة والتمكُّن والغنيمة، ثم صرف اللهُ كلَّ ذلك وجعل الدولةَ للمجريِّين، وفي هذا ابتلاءٌ للمسلمين، واختبارٌ لِمَن تبقَّى منهم، بل لِمَن لم يُشارك في الموقعة وسمع عنها، ثم نسأل اللهَ أن يكون قد عفا عن المقصِّرين، فهو صاحب الفضل على المؤمنين..
ثانيًا: كانت هذه الموقعة سببًا في توقُّف المواجهات الكبرى بين الدولة العثمانيَّة والمجر لأكثر من أربعين سنة؛ فإنَّها لن تعود إلَّا في زمن ولاية السلطان سليمان القَانوني، أي بعد عام 1520م، واكتفت الدولة العثمانيَّة في هذه الفترة بالدِّفاع عن حدودها الشماليَّة مع المجر دون محاولة اختراقٍ أخرى.
ثالثًا: على عكس ما كان متوقَّعًا من ملك المجر ماتياس فإنَّه لم يُفكِّر في اجتياح الدولة العثمانيَّة في أيِّ موضعٍ على الرغم من انتصاره الحاسم في حقل الخبز؛ فقد كان يرى أنَّ قوَّة الدولة العثمانيَّة مرهوبةٌ للغاية، ويرى كذلك أنَّ الحكمة تقتضي ألَّا يدخل معهم في صدامٍ واسع، وألَّا يستثير غضبهم بأيِّ صورة، ولئن خرج من موقعة حقل الخبز برضى الطرفين على عدم التقاتل لفترة فإنَّ هذا نجاحٌ كبير، خاصَّةً بعد العلوِّ العثماني الواضح في أوروبا بعد معاهدة البندقية..
هذا السلوك من ماتياس كان منتقَدًا بالطبع في أوروبا، وما زال منتقَدًا بين كثيرٍ من المؤرِّخين الغربيِّين إلى يومنا هذا، مع قناعة الجميع أنَّ هذا السلوك جنَّب بلاده التدمير على يد العثمانيِّين، إلَّا أنَّ معظمهم لا يرى في تصرُّفه هذا الحكمة؛ بل يرى الضعف وعدم التديُّن.. ولنقرأ سويًّا ما كتبه مؤلِّفو موسوعة العلاقات المسيحية الإسلاميَّة برئاسة المؤرِّخ الأميركي ديڤيد توماس David Thomas عن ملك المجر ماتياس: «غالبًا ما يُتَّهم ماتياس بإهمال التهديد التركي ووضعه في أولويَّةٍ متأخِّرة، وتضييع طاقته في فتوحاتٍ تافهةٍ في أماكن أخرى، ولم يَقُدْ حملات صليبيَّة ذات مستوًى كبير، وعلى الرغم من تنظيمه لجيشٍ كبيرٍ من المرتزقة فإنَّه قاتل حروبًا قليلةً ضدَّ العثمانيِّين، ولم يُواجه جيش السلطان محمد الفاتح الرئيس إلَّا مرَّةً واحدةً في معركة حقل الخبز عام 1479م، ولم يُشارك إلَّا في ثلاث حملاتٍ فقط ضدَّ الدولة العثمانيَّة، ولم يُساعد البندقية ولا سلطان الآق قوينلو أوزون حسن في حربهم للأتراك، ومع ذلك فهو الحاكم الوحيد الذي أرسل قوَّاتٍ لتحرير أوترانتو الإيطاليَّة من قبضة الأتراك، ولتحرير الباباويَّة من الخطر المباشر؛ لقد أدرك ماتياس أنَّ بلده لا يُمكن أن تُقَارَن بالإمبراطوريَّة العثمانيَّة من حيث الإمكانات العسكريَّة أو المصادر الماليَّة، وكان اهتمامه في الأساس منصبًّا عل الحفاظ على طريقة تعايش». وبعد أن ذكر علماء الموسوعة هذه الاتِّهامات المتتالية إذا بهم يُقرُّون في النهاية بالحقيقة فيقولون: «والواقع أنَّ دبلوماسيَّة ماتياس الحذرة أنقذت المجر من التدمير لمدَّة خمسين سنة»[69]!
إِذَنْ كان ماتياس حكيمًا في الواقع في عدم مجابهته للدولة العثمانيَّة في مواجهةٍ شاملة، ولم يكن اختياره هذا عن جبنٍ أو تردُّد؛ إنَّما عن دراسةٍ ووعي، وليس القائد الحكيم هو الذي يحكم على عدوُّه من خلال موقعةٍ أو موقف؛ إنَّما يجب أن يكون تقويمه شاملًا، ونظرته عميقة. الذي ينظر إلى واقع الدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح يرى أنَّها دولةٌ عملاقةٌ مرهوبةٌ قادرة، وأنَّها وإن هُزِمَت في موقعةٍ هنا أو هناك فإنَّها سريعًا ما تستردُّ عافيتها وتقوم من جديد، ويكون قيامها أقوى من حالتها قبل السقوط، والأدلَّة متوفِّرة في حربها ضدَّ البنادقة، أو الألبان، أو الصربيِّين، أو اليونانيِّين، أو الإيرانيين، أو غيرهم..
هكذا رَأَى ماتياس الأمور، وكان رأيه في الحقيقة صائبًا! ويوم يأتي بعده مَنْ يُقاتل العثمانيِّين بعاطفته الصليبيَّة دون التقويم الحقيقي للقدرات والإمكانات، فإنَّه سيقود بلاده إلى الانهيار تحت أقدام الدولة العثمانيَّة، ولمدَّة مائةٍ وخمسين سنةً كاملةً!
رابعًا: على الرغم من الاهتمام المجري الكبير بهذه الموقعة، واعتبار بول كينيزي أحد رموز النضال الكبرى في التاريخ، فإنَّ الموقعة لا تجد اهتمامًا يُذْكر في تاريخ رومانيا، مع أنَّ الموقعة حدثت على أرض ترانسلڤانيا، أحد أقاليم رومانيا الآن[70]، ويرجع السرُّ في ذلك إلى التوتُّر الدائم بين المجر ورومانيا بسبب إقليم ترانسلڤانيا تحديدًا؛ فبينما تَعُدُّه المجر جزءًا من مملكة المجر الكبرى على مدار ألف سنة، فإنَّه الآن من الأقاليم التابعة لرومانيا، وذلك بعد معاهدة تريانون Treaty of Trianon عام 1920م، التي تمَّت في فرنسا عقب الحرب العالمية الأولى، وأعطت إقليم ترانسلڤانيا إلى رومانيا، وذلك أثناء تقسيم المجر بعد هزيمتها من الحلفاء، وكانت المجر ضِمْنَ الحلف الألماني الخاسر[71]، وهكذا لا تحتفل رومانيا بنصرٍ حقَّقه المجريُّون على العثمانيِّين على أرض الرومانيِّين، ولا مجال هنا للحديث عن الحرب بين النصرانية والإسلام، أو المعاني الدينيَّة وراء الحدث؛ فإنَّ القوميَّات والعرقيَّات والتاريخ يكون لها أحيانًا آثارٌ أكبر من آثار الدين والعقيدة!
خامسًا: من جديد نقول: إنَّ ولاء الإمارات النصرانية في داخل الدولة العثمانيَّة غير مضمونٍ بالمرَّة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ لاختلافات العقيدة، والتاريخ، والأهداف، والطموحات. نقول هذا الكلام لأنَّنا شاهدنا الفرقة الإفلاقيَّة النصرانية تُشارك في المعركة إلى جوار الدولة العثمانيَّة ولكن دون روحٍ أو عزيمة، فليس من المتوقَّع منهم أن يخوضوا حربًا ضروسًا ضدَّ أبناء عمومتهم من أهل ترانسلڤانيا أو المجر، وقد عادوا بعد المعركة سالمين بقيادة أميرهم باساراب الأصغر، ممَّا يُؤكِّد أنَّهم كانوا يُقاتلون وهم على استعدادٍ كاملٍ للفرار وترك ساحة القتال.
وما أجمل ونحن نتابع هذا الموقف من نصارى الإفلاق أن نُراجع موقف رَسُولِ اللهِ ﷺ من رجلٍ مشركٍ قويٍّ ومقاتل، أراد أن يُساعد المسلمين على حربهم على أن يأخذ من الغنيمة في حالة النصر..
قالت عَائِشَةُ ل زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قِبَلَ بدر، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ، وَأُصِيبَ مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟». قَالَ: لَا. قَالَ: «فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ». قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: «فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ». قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: «تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَانْطَلِقْ»[72].
الآن بعد أن قرأنا التاريخ، في هذا الموقف في معركة حقل الخبز، وفي مواقف أخرى كثيرة مرَّت، وستمرُّ بنا، أدركنا المغزى وراء ردِّ فعل رَسُولُ اللهِ ﷺ في تعامله مع المشرك، مع أنَّ قوَّته كبيرةٌ إلى الدرجة التي أفرحت الصحابة، ولكن يُعلِّمنا رَسُولُ اللهِ ﷺ أنَّ حزننا سيكون أكبر من فرحنا الآن عندما ينسحب المشرك الذي يُساعدنا إذا وجد أنَّ «الدنيا» التي جاء يطلبها صعبةُ المنال، فعندها سيكون الفرار هو الخيار المطروح، بل قد ينضمُّ هذا المخالف في العقيدة للفريق الآخر إذا وجد أنَّ الدنيا معه أكثر، أو أنَّ الأمان عنده أوفر.
وتأكيدًا لهذا المعنى الأخير نذكر أنَّه في موقعة حقل الخبز وجدنا في جيش المجريِّين فرقةً من الرومانيِّين تحت قيادة لايوتا باساراب[73]! ولايوتا هذا كان تابعًا للدولة العثمانيَّة، وأميرًا على الإفلاق لمدَّة أربع سنوات، من 1473 إلى 1477م، وقاتل قبل ذلك في صفِّ العثمانيِّين، ولكنَّه الآن يُغيِّر الولاء، ويُقاتل في صفِّ المجريِّين ضدَّ العثمانيِّين؛ لأنَّ «المصلحة» تقتضي ذلك! وعمومًا فإنَّ الأصل عند الرومانيِّين وغيرهم أنَّهم كانوا يعتذرون كثيرًا عن المشاركة في المعارك العثمانيَّة بدعوى الحفاظ على إماراتهم من الغزو الخارجي أثناء قتالهم مع الجيوش العثمانيَّة[74]، وهذا وإن كان لا يأتي على رغبة العثمانيِّين، إلَّا أنَّني أرى أنَّه كان الأفضل للدولة؛ حيث إنَّ النصر لا يتحقَّق بكثرة الأعداد، ولكن بعقيدةٍ سليمة، ونوايا صالحة، وصَدَقَ الشَافعي حين قال:
مَا حَكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِكْ فَتَوَلَّ أنْتَ جَمِيعَ أَمْرِكْ
وَإِذَا قَصَدْتَ لِحَاجَةٍ فَاقْصِدْ لِمُعْتَرِفٍ بِقَدْرِكْ[75]
سادسًا: نتيجة هذا الانكسار للعثمانيِّين، قرَّر استيفين الثالث أمير البغدان أن يُخْلِف وعده الذي قطع للفاتح بدفع الجزية من جديد، خاصَّةً أنَّ الأحداث السابقة -أي معركة حقل الخبز- دارت على مقربةٍ من بلاده (حوالي مائتي كيلو متر فقط من حدود البغدان) ممَّا يعني أنَّ الفرقة العثمانيَّة المكلَّفة بهذه الجبهة الشماليَّة قد ضعفت جدًّا، وسنرى مع تطوُّر الأحداث أنَّ استيفين الثالث سيفعل ما هو أكثر من مجرَّد عدم دفع الجزية؛ إذ سيتجرَّأ على غزو الإفلاق! وهذا يُؤكِّد فداحة الخسارة العثمانيَّة في موقعة حقل الخبز، ممَّا أعطى استيفين الثالث الجرأة على هذا التعدِّي.
سابعًا وأخيرًا: النقطة المضيئة في هذه الهزيمة القاسية هي ما رأيناه من السلطان الفاتح رحمه الله بعد معرفته بالخبر! لقد تعامل مع الأمر بواقعيَّةٍ شديدة، فهو يُدرك أنَّ الحروب انتصارات وهزائم، وأنَّه ليس هناك جيشٌ بلا أخطاء، ولا بشرٌ بلا ذنوب، ولكنَّ المهمَّ هو القيام من جديد، فإذا بالفاتح ينفض غبار الهزيمة عن أكتافه، ويجتمع مع قادة جيوشه ووزرائه لإعداد العدَّة للخطوة القادمة! إنَّ المسيرة لن تتوقَّف، والجهاد لن يهدأ، والأعداء لا يستكينون، ولئن كان ملك المجر لا يُؤْثِر اقتحام الدولة العثمانيَّة فهناك آخرون مثل فرسان القديس يوحنا يفعلون ذلك مع أساطيل الدولة التجاريَّة والعسكريَّة، ولئن قَنَعَت البندقية بالسلام مع العثمانيِّين فإنَّ البابا ما زال يُهيِّج الحملات الصليبيَّة على الدولة العثمانيَّة والمسلمين، ومن هنا فلا وقت للراحة، ولا مكان في هذا العالم النَشِط للكسالى..
ويرفع من قيمة الفاتح في أعيننا أكثر وأكثر أن نعلم أنَّ هذه الأخبار قد أتته وهو في نوبةٍ جديدةٍ من نوبات مرضه، ولقد ابتُلي آلُ عثمان بتوارث النقرس، الذي لم يكن له علاجٌ معروفٌ في زمانهم، والمريض بالنقرس قد يتعرَّض لنوباتٍ حادَّةٍ جدًّا من التهاب المفاصل وتورُّمها، ولقد نقلت المصادر أنَّ الفاتح في هذه الفترة أُصيب بخرَّاج (دِمِّل) في ساقه غير معروف المصدر ممَّا أقعده عن الحركة[76]، ولا يُستبعد أن يكون هذا الخُرَّاج من مضاعفات النقرس، وقد يزداد الأمر سوءًا إذا أصاب النقرس الكُلَى أو القلب، وقد يكون قاتلًا في هذه الأحيان، ومن المعروف أنَّ هذه النوبات كانت تُصيب الفاتح كثيرًا، وخاصَّةً في هذه الأعوام الأخيرة عندما كان مضطرًّا إلى العمل المتواصل، والجهد الزائد، في حملاته المتكرِّرة هنا وهناك.
إنَّه مع هذا المرض والألم يعقد مجلسًا عسكريًّا مهمًّا ليأخذ قراراتٍ عظيمةً بخصوص المرحلة القادمة من حياة الدولة العثمانيَّة..
أتراه سيتَّجه إلى فرسان القديس يوحنا؟ أم سيُكمل الطريق إلى روما بعد السيطرة على جزر الأدرياتيكي؟ أم سيُعيد غزو المجر؟ أم سيُؤدِّب استيفين الثالث الممتنع عن دفع الجزية من جديد؟
هذا ما سنعرفه في المقال القادم[77].
[1] رواه أحمد والدارمي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه الألباني، سبق تخريجه انظر: ص PAGEREF مدينة_هرقل \h 262.
[2] Hosaflook David Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478 [Book]. - Albania : Onufri Publishing House, 2012, pp. 183-184.
[3] Cates William Leist Readwin and Woodward Bernard Bolingbroke Encyclopaedia of Chronology: Historical and Biographical [Book]. - [s.l.] : Longmans, Green., 1872, p. 518.
[4] Edwards John The Spain of the Catholic Monarchs 1474–1520 [Book]. - [s.l.] : Blackwell Publishers Inc, 2000, pp. 38-39.
[5] راغب السرجاني قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط- القاهرة - مصر : مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2014م صفحة 547.
[6] Miller William The Latins in the Levant: A History of Frankish Greece (1204–1566) [Book]. - New Yourk : E. P. Dutton and Company, 1908, p. 485.
[7] Setton Kenneth Meyer, Hazard Harry W. and Zacour Norman P. A History of the Crusades [Book] / ed. Hazard Harry w. and Zacour Norman P.. - Madison, WI, USA : The University of Wisconsin Press, 1975, vol. 3, p. 323.
[8] Finlay George The history of Greece under Othoman and Venetian Domination, A. D. 1453-1821 [Book]. - Edinburgh And London : William Blackwood and sons, 1856, p. 75.
[9] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 148.
[10] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press,, 1978, p. 378.
[11] Setton, 1976, vol. 2, p. 329.
[12] Hartt Frederick History of Italian Renaissance Art [Book]. - [s.l.] : Thames & Hudson (US Harry N Abrams),, 1987, pp. 397-398.
[13] Babinger, 1978, p. 378.
[14] Setton, 1976, vol. 2, p. 329.
[15] Carboni Stefano Venice and the Islamic World, 828-1797 [Book]. - USA : Yale University Press, 2007, p. 303.
[16] Earls Irene Renaissance Art: A Topical Dictionary [Book]. - Connecticut, USA : Greenwood press, 1987, p. 270.
[17] Freely, 2009, p. 149.
[18] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية [كتاب] / المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/170.
[19] Olson James Stuart, Pappas Lee Brigance and Pappas Nicholas Charles An Ethnohistorical Dictionary of the Russian and Soviet Empires [Book]. - Westport, USA : Greenwood Publishing Group., 1994, p. 243.
[20] İnalcık Halil Mehmed the Conqueror (1432-1481) and His Time [Article] // Speculum. - Chicago, USA : The University of Chicago Press, 1960, vol 35, no. 3, p. 425.
[21] Pilat von Liviu and Ovidiu Cristea The Ottoman Threat and Crusading on the Eastern Border of Christendom During the 15th [Book]. - Boston, USA : Brill., 2017, p. 192.
[22] Setton, 1969, vol. 3, p. 324.
[23] Babinger, 1978, p. 381.
[24] Setton, 1976, vol. 2, pp. 347-348.
[25] محمد بك فريد تاريخ الدولة العلية العثمانية [كتاب] / المترجمون تحقيق: إحسان حقي. - بيروت، لبنان : دار النفائس، 1981م صفحة 176.
[26] Freely, 2009, p. 147.
[27] Parks Tim Medici Money: Banking, Metaphysics, and Art in Fifteenth-Century Florence [Book]. - New York : W.W. Norton & Co, 2008, p. 288.
[28] Freely, 2009, p. 147.
[29] Babinger, 1978, p. 385.
[30] Freely, 2009, p. 147.
[31] Kármán Gábor and Kunčević Lovro The European Tributary States of the Ottoman Empire in the Sixteenth and Seventeenth Centuries The Ottoman Empire and its Heritage [Book]. - Boston, USA : BRILL., 2013, p. 402.
[32] Babinger, 1978, p. 373.
[33] Freely, 2009, p. 149.
[34] Babinger, 1978, p. 374.
[35] Freely, 2009, p. 149.
[36] Babinger, 1978, p. 383.
[37] Freely, 2009, p. 148.
[38] Babinger, 1978, p. 383.
[39] Freely, 2009, p. 148.
[40] Nicol Donald M. The Despotate of Epiros 1267-1479 [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 1984, p. 213.
[41] Miller, 1908, p. 485.
[42] Nicol, 1984, p. 213.
[43] Freely, 2009, p. 148.
[44] Nicol, 1984, p. 213.
[45] Babinger, 1978, p. 384.
[46] Freely, 2009, pp. 148-149.
[47] Babinger, 1978, p. 374.
[48] أوزتونا، 1988م صفحة 1/168.
[49] Rogers Clifford J The Oxford Encyclopedia of Medieval Warfare and Military Technology [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 2010, vol. 1, p. 320.
[50] Kármán Gábor and Kunčević Lovro The European Tributary States of the Ottoman Empire in the Sixteenth and Seventeenth Centuries The Ottoman Empire and its Heritage [Book]. - Boston, USA : BRILL., 2013, p. 266.
[51] Babinger, 1978, p. 374.
[52] Babinger, 1978, p. 374.
[53] Rogers, 2010, vol. 1, p. 320.
[54] Babinger, 1978, p. 374.
[55] Rogers, 2010, vol. 1, p. 320.
[56] Babinger, 1978, p. 375.
[57] Godkin Edwin Lawrence the history of hungary and the magyars from the Earliest period to the close of the late war [Book]. - London : jhon cassell, ludgate, hill, 1853, p. 128.
[58] Babinger, 1978, pp. 375-376.
[59] Rogers, 2010, vol. 1, p. 320.
[60] Setton, 1976, vol. 2, p. 330.
[61] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001, p. 308.
[62] أوزتونا، 1988م صفحة 1/168.
[63] Leader Ninon A. M Hungarian Classical Ballads: And Their Folklore, Cambridge University Press, New York, p.11.Leader, Ninon A. M. (1967) Hungarian Classical Ballads: And Their Folklore [Book]. - New York : Cambridge University Press, 1967, p. 11.
[64] Utz Richard J and Swan Jesse G Postmodern Medievalisms [Book]. - [s.l.] : DS Brewer New York., 2005, pp. 5-6.
[65] Rogers, 2010, vol. 1, p. 320.
[66] Babinger, 1978, p. 376.
[67] Godkin Edwin Lawrence the history of hungary and the magyars from the Earliest period to the close of the late war [Book]. - London : jhon cassell, ludgate, hill, 1853, p. 128.
[68] السرجاني، 2014م الصفحات 81-86.
[69] Thomas David [et al.] Christian-Muslim Relations. A Bibliographical History [Book]. - Boston, USA : Brill., 2013, vol. 5., p. 572.
[70] Utz, et al., 2005, p. 6.
[71] Craig Gordon A Europe Since 1914 [Book]. - New York, USA : Dryden Press, 1972, p. 497.
[72] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر (1817)، والنسائي (11600)، وأحمد (25199).
[73] Miller, et al., 2010 .
[74] Kármán, et al., 2013, p. 261.
[75] الشافعي: ديوان الإمام الشافعي، اعتنى به عبد الرحمن المصطاوي- بيروت لبنان : دار المعرفة، 2005م صفحة 91.
[76] Babinger, 1978, p. 382.
[77] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 683- 710.
التعليقات
إرسال تعليقك