التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الدولة العثمانيَّة خاضت في عهد السلطان محمد الفاتح مائة وسبعين معركةً تراوحت نتائجها ما بين النصر الهزيمة.
لم أجد في مئات المصادر التي رجعت إليها في كتابة قصَّة السلطان العظيم محمد الفاتح مصدرًا واحدًا جمع كلَّ معاركه ومعارك دولته في إطارٍ واحدٍ يسمح بتحليلها، ورصد نتائجها، وإجراء إحصائيَّاتٍ عمليَّةٍ منطقيَّة تُحقِّق بعض الاستنباطات المهمَّة من هذه المعارك المتعدِّدة، ومِنْ ثَمَّ فقد توكَّلتُ على الله، وقمت بهذا الإحصاء الصعب، فوصلت إلى أنَّ الدولة العثمانية خاضت في عهد الفاتح مائة وسبعين معركةً على الأقل، ومن المحتمل أن يكون العدد أكبر من ذلك لأنَّني جمعت هذا العدد من مصادر متعدِّدة، وقد تكون هناك معارك أخرى لم أقف عليها موجودة في مصادر لم أطَّلع عليها، كما أنَّه أحيانًا يُطْلَق لفظٌ عامٌّ على العمليَّة العسكريَّة مثل «فتح المورة»، أو «ضمِّ جنوب صربيا» أو «السيطرة على الجزيرة»، فتُحصى كمعركةٍ واحدة، بينما يكون الواقع هو عدَّة معارك، فيها النصر، وفيها الهزيمة، وتكون المحصِّلة النهائيَّة هي «الفتح» أو «الضمَّ»، وهذا كلُّه قد يُؤثِّر في عمليَّة الإحصاء، ولكن بشكلٍ عامٍّ أحسب أنَّني توصَّلتُ إلى معظم المعارك العثمانيَّة في عهد الفاتح، إن لم يكن كلها.
ينبغي أيضًا الأخذ في الاعتبار التفاوت الكبير بين المعارك وبعضها البعض، فكلُّ لقاءٍ عسكريٍّ مع جيوش العدوِّ يُعَدُّ معركةً بالمفهوم الحربي، لكن ليست كلُّ المعارك واحدة؛ إنَّما الفروق -في الواقع- كبيرة؛ فهناك المعارك الرهيبة التي شارك فيها بلا مبالغة مئات الآلاف من الجنود مثل معركة أوتلق بلي عام 1473م، وهناك المعارك الصغيرة التي شارك فيها بضعة آلاف، أو أقل من ذلك، مثل فتح جزيرة إيثاكا عام 1479م، ومع ذلك فكلتا المعركتين توضعان في الإحصاء بشكلٍ متوازٍ قد يوحي بالتماثل، وهناك المعارك التي استمرَّت عدَّة شهور كحصار رودس عام 1480م مثلًا، وهو لا شَكَّ شمل عدَّة حملاتٍ وصدامات، ومع ذلك يُحْسَب كمعركةٍ واحدةٍ في الإحصاء، بينما هناك معارك اليوم الواحد كمعركة ليسكوفاك عام 1454م، وهناك المعارك التي كانت ضحاياها بعشرات الآلاف مثل حِصار شقودرة عام 1478م، بينما هناك المعارك التي لم يسقط فيها قتيلٌ واحد مثل فتح إسفنديار عام 1461م، وأيضًا هناك المعارك التي اهتزَّت لها أوروبا والعالم مثل فتح القسطنطينية عام 1453م، بينما هناك التي لا يسمع عنها أحد، مثل معركة بيرات عام 1455م، أو معركة ألانيا عام 1471م. هذا التفاوت الكبير بين المعارك يُؤثِّر في النتائج التحليليَّة لمجموع الحروب، ومع ذلك لا أعتقد أنَّ هذا التأثير سيكون كبيرًا لأنَّ عدد المعارك ضخم، وبالتالي ستكون النتائج منطقيَّة وعلميَّة إلى حدٍّ كبير؛ فمن المعلوم إحصائيًّا أنَّه كلَّما زادت «العيِّنة» التي تُجْرَى عليها البحوثُ التحليليَّة كانت النتائج أقرب إلى الصواب.
ونلفت النظر كذلك إلى نقطةٍ مهمَّةٍ قبل البدء في تحليل نتائج المعارك، وهي أنَّنا نُشير إلى نتيجة المعركة بكلمة «انتصار»، أو «هزيمة»، وهذا لفظٌ عامٌّ قد لا يشرح طبيعة القتال في المعركة، فمثلًا عندما تُحاصر الجيوش قلعةً ما ثُمَّ تفشل في إسقاطها يكون المسمَّى لنتيجة هذا الحصار الفاشل هو «الهزيمة»، بينما في الواقع أنَّ الجيش المحاصِر عادَ بكامله، أو بخسائر طفيفة، بل قد لا يكون هناك قتالٌ مباشرٌ بين الطرفين، لكن المحصِّلة هي «فشل» الجيش في تحقيق «الهدف»، ومِنْ ثِمَّ عُدَّ ذلك «هزيمة» له، و«نصر» للفريق الآخر.
وأُضيف كذلك إلى النقطة السابقة أنَّ الحملة العسكريَّة الواحدة قد تضمُّ عدَّة معارك على مدار عدَّة أيام، أو عدَّة شهور، ويكون في هذه المعارك نجاحات وفشل، ولكن المحصِّلة النهائيَّة تكون «نصرًا»، أو «هزيمة»، فمثلًا إذا نظرنا إلى حملة الفاتح عام 1478م على ألبانيا نجد أنَّ فيها عدَّة انتصارات مثل فتح كرويه، وفتح زابلياك، وكذلك فتح درشت، وليزهي، ولكن في الوقت نفسه هناك هزيمة شقودرة، ومع ذلك فالمحصِّلة النهائيَّة هي أنَّ الحملة «ناجحة» مع أنَّها شملت هزيمةً كبيرةً في إحدى محطاتها.
هذه التفاوتات الكثيرة تؤخذ في الاعتبار، وتُراعى عند النظر إلى النتائج النهائيَّة للتحليل، ولكن يبقى في النهاية أنَّ جمع المعارك إلى جوار بعضها البعض في مقارناتٍ شاملةٍ يُحقِّق نتائج رائعة، ويضع أيدينا على استنباطاتٍ باهرةٍ لم يكن من الممكن أن نتوصَّل إليها دون هذا الإحصاء.
وسوف أستعرض في هذا المقال طرفًا من هذه النتائج، والمجال مفتوحٌ للباحثين لاستكمال العمل، وإخراج إحصائيَّاتٍ جديدةٍ تُحقِّق النفع في دراسة هذا التاريخ القيِّم.
***
أوَّلاً: نسبة النصر إلى الهزيمة:
كان أوَّل ما حرصتُ عليه بعد إتمام هذا الإحصاء أن أعلم نسبة المعارك التي تحقَّق فيها النصر للجيش العثماني زمن محمد الفاتح بالقياس إلى معارك الدولة كلِّها، فكانت النتيجة مفاجئة لي بشكلٍ كبير! لقد حقَّق الجيش العثماني النصر في مائة وخمس معارك من أصل مائةٍ وسبعين معركةً خاضها، بينما هُزِم في خمس وستين موقعةً حربيَّة، ممَّا يُعطي نسبة نصر تُساوي 61.8%!
إنَّها مفاجأةٌ كبيرةٌ حقًّا!
إنَّ القارئ لسيرة الفاتح رحمه الله لا يتخيَّل أنه هُزِم في هذا العدد الكبير من المعارك، فالانطباع الذي عندنا، أو الذي «نتمنَّاه»، هو أنَّ الفاتح قائدٌ لا يُقْهَر، وما زال فريقٌ كبيرٌ من المتحمِّسين يتخيَّل أنَّ الصورة المثلى للقائد الناجح هي صورة «الرجل الخارق» الذي لا يقوى أحدٌ على التغلُّب عليه، وينسى هؤلاء أنَّ غزوة بدر كانت متبوعة بغزوة أحد، وأنَّ فتح مكة المبين أعقبه فرار حنين الشهير، وأنَّ فتح صلاح الدين لبيت المقدس تبعه بأربعة أعوام سقوط عكا في يد الصليبيين، وهكذا طبيعة الدول الكبرى، وطبيعة الجيوش القويَّة، لا بُدَّ لها من هزيمةٍ مع النصر، ولا بُدَّ لها من فشلٍ مع النجاح.
والسؤال: لماذا أخذنا هذا الانطباع بأنَّ الفاتح لم يُهْزَم في حياته؟
إنَّ الإجابة عن هذا السؤال مركَّبة، ويُمكن إجمال السبب في النقاط الآتية:
1. العبقريَّة الحربيَّة الحقيقيَّة عند الفاتح رحمه الله، التي شهد بها القريب والبعيد. يقول المؤرِّخ الفرنسي أندريه كلوت André Clot: «يُعَدُّ محمد الفاتح وسليمان القانوني هما أقوى الرموز في كلِّ التاريخ التركي»[1]، ويقول المؤلِّف الأميركي چون تيبل John Teeple: «كان محمد الثاني، والمعروف بالفاتح، قائدًا مستنيرًا ومثقَّفًا، كما كان خبيرًا عسكريًّا موهوبًا»[2]، ومثل هذه الشهادات كثيرة للغاية، وكلها يصبُّ في الاعتراف بعبقريَّة الفاتح العسكريَّة، ممَّا يجعل من الصعب تصوُّر انتصار العدوِّ عليه في خمس وستين موقعة.
2. كان تمكُّن السلطان الفاتح من فتح القسطنطينية هو أحد الأسباب في أخذ الانطباع بأنَّ الفاتح لا يُقْهَر، وذلك من وجهين؛ أمَّا الوجه الأوَّل فهو تحقيق الفاتح للأمر الذي فشل فيه كلُّ القادة المسلمين على مدار أكثر من ثمانمائة عامٍ متَّصلة، فصار مفهومًا عند الناس أنَّ الذي حقَّق ما لم يُحقِّقْه غيره هو أعلى منهم بلا جدال، وأنَّ الذي قهر القسطنطينية، مع كونها قاهرة لكلِّ الفاتحين والغزاة، هو رجلٌ قديرٌ لا تقوى عليه جيوش الأرض، وأمَّا الوجه الثاني فهو أنَّ سقوط القسطنطينية هزَّ العالم أجمع، ولم يكن هذا الاهتمام بسقوط القسطنطينية محدودًا بالمعاصرين للحدث؛ إنَّما اشتُهر هذا الأمر في كتابات المؤرِّخين إلى زماننا هذا، ولقد أُلِّفت كثيرٌ من الكتب والمصادر للحديث فقط عن سقوط القسطنطينية[3][4][5]، وكلُّ هذه المصادر تُشير إلى دور الفاتح في هذه العمليَّة، ممَّا جعل شهرة الفاتح تطبق الآفاق، بل لا يعرف كثيرٌ من الناس -وأحيانًا المؤرخين- شيئًا عن الفاتح سوى فتح القسطنطينية، خاصَّةً أنَّ الكثير من العلماء يَعُدُّون هذا الحدث هو أحد أبرز الأحداث التي فَصَلت العصور الوسطى عن العصور الحديثة؛ فالمؤرِّخ الأميركي چول ستيل Joel Steele يقول: «وُضِع الهلال مكان الصليب على قبَّة آيا صُوفيا، وكان هذا هو الحدث الخاتِم للعصور الوسطى»[6]. وكذلك يقول المؤرخ الإنجليزي وليام ليلى William Lilly: «كان أخْذُ محمد الثاني القسطنطينية مُؤْذِنًا بغلق عهد العصور الوسطى»[7]. هذا كلُّه جعل صورة محمد الفاتح مرتبطةً فقط بالنصر والنجاح.
3. والسبب الثالث في أخْذِ الانطباع بأنَّ حياة الفاتح هي انتصاراتٌ بلا هزائم هو إهمال المؤرِّخين المسلمين لكلِّ لحظات الفشل في حياة القادة الإسلاميِّين الكبار بشكلٍ عامٍّ، وفي حياة الفاتح بشكلٍ خاص، واعتقادهم بأنَّه إذا كان هذا الأمير في التوصيف النبوي هو نِعْمَ الأمير، فلا يستقيم له أن يُهْزَم، وإذا حدث فينبغي ألَّا نُطْلِع النشأ والشباب على هذه الهزائم للحفاظ على صورة الفاتح قويَّة، والإبقاء عليه رمزًا يُنظَر إليه بفخرٍ وإعجاب، وهذا منطقٌ غير سليم؛ لأنَّ القادة الكبار، وكذلك الفاتح، ما هم إلَّا بشرٌ تجري عليهم كلُّ الأحكام التي تجري على عامَّة الناس، ولا يُنتقص أبدًا من قيمتهم أنَّهم تعرَّضوا في حياتهم إلى هزائم، أو وقعوا في أخطاء، وهناك الكثير من المواقف التي تعرَّض فيها الفاتح إلى هزيمة، أو عدم نجاح، وجرى لفت النظر إلى تجاهل المؤرِّخين المسلمين -وخاصَّةً الأتراك- لهذه الأحداث، وهذا أحد الأسباب التي أوقعتنا في مثل هذا المأزق التاريخي، وأعني به مأزق انطباع مخالف للحقيقة، فهذا يُؤثِّر سلبًا في قدرتنا على تحليل الأمور بشكلٍ صحيح.
4. يلحق بالسبب السابق سببٌ رابعٌ وقع فيه المؤرِّخون كذلك، وهو المبالغة فوق المعتاد في وصف الجيوش العثمانيَّة في زمن الفاتح رحمه الله، فعندما تقرأ مثل هذه المبالغات تعتقد أنَّ هذا الجيش بهذا الوصف لا يُمكن أن يُهْزَم. يقول يلماز أوزتونا في وصف الجيش العثماني في عهد الفاتح: «كان الجيش العثماني هو الجيش الأوَّل على الأرض دون منافس»[8]. وهذه في الواقع مبالغةٌ كبيرة، فهناك جيش المجر، وكان قويًّا للغاية، وهناك جيش الإمبراطوريَّة النمساويَّة، وهناك جيش إسبانيا الذي سيضمُّ بعد قليل أميركا اللاتينيَّة إلى أملاك إسبانيا، وهناك جيوش فرنسا، وإنجلترا، والبرتغال، وهذه كلُّها جيوش أوروبا، فإذا وسَّعنا النظرة وجدنا جيوش المماليك في مصر والشام، وكذلك جيوش آسيا في الصين، والهند، وأفغانستان، وإيران. هذا كلُّه لا يُقلِّل من قيمة الجيش العثماني، ولكن المبالغة الزائدة تُعطي انطباعات غير حقيقيَّة فلا نفهم عندها كيف حدثت خمس وستون هزيمةً لهذا الجيش الأوَّل على العالم بلا منافس! وكان الأَوْلى أن نقول مثلًا: كان الجيش العثماني هو أحد أقوى الجيوش في أوروبا، فهو ليس الوحيد القوي في أوروبا، ونحن لم نقم بدراساتٍ لمقارنته بجيوش شرق وجنوب آسيا، فالأسلم علميًّا هو استخدام مثل هذه الصياغات التي تترك الباب مفتوحًا للباحثين للإدلاء بمعلوماتهم وتحليلاتهم. وفي مكانٍ آخر يقول أوزتونا وهو يصف الأسطول العثماني في عهد الفاتح: «ولأوَّل مرَّةٍ في التاريخ أحرز الأتراك الأولويَّة بين دول العالم في القوَّة البحريَّة»[9].
وهذه أيضًا مبالغة كبيرة؛ فالأساطيل الأوروبِّيَّة كانت أقوى بكثيرٍ من أساطيل الفاتح، وتأتي على رأسها أساطيل البندقية، وإسبانيا، والبرتغال، ونابولي، فهذه لم تكن تتفوَّق في عدد السفن فقط؛ إنَّما في حجم السفن وقدراتها العسكريَّة، وكذلك في خبرة البحَّارة ورجال الأسطول، وأيضًا في معرفة الطرق البحريَّة وخبايا البحار، ولقد استطاعت سفينةٌ واحدةٌ تابعةٌ لنابولي أن تخترق الأسطول العثماني كلَّه وتدخل إلى رودس آمنة، وكذلك فعلت قبلها سفينة صقلية، هذا يُشير إلى أنَّ تفوُّق الأساطيل الأوروبِّيَّة على الأساطيل العثمانيَّة كان واضحًا أيَّام الفاتح، ولا يمنع أنَّ الأمر تطوَّر بعد ذلك في زمن بايزيد الثاني، ثم سليم الأول، ثم سليمان القانوني، حتى صار الأسطول العثماني أحد أقوى الأساطيل العالميَّة، لكن المبالغة في وصف هذا الأسطول في زمن الفاتح جعلتنا لا نتصوَّر هزيمته، أو نحتار في التحليل عندما نجده قد تعرَّض لأزمةٍ أمام سفينةٍ إيطاليَّةٍ أو إسبانية.
وأعجبني ما ذكره المؤرِّخ الأميركي كليفورد روچرز Clifford Rogers، وهو أستاذٌ متخصِّصٌ في التاريخ العسكري في الأكاديميَّة العسكريَّة الأميركيَّة (وست بوينت West Point) في نيويورك، حين مدح الأسطول العثماني في زمن الفاتح دون مبالغة، ثم عيَّن بدقَّة الزمن الذي صار فيه الأسطول العثماني عالميًّا، وذلك بدايةً من زمن بايزيد الثاني ابن محمد الفاتح. يقول كليفورد روچرز: «كان حجم الأسطول العثماني في عهد محمد الثاني مثيرًا للإعجاب، ولكن تحت حكم بايزيد الثاني تحوَّلت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة من قوَّةٍ تعتمد على الجيوش البرِّيَّة إلى قوَّةٍ بحريَّةٍ كبيرة»[10]. لقد أبصر كليفورد روچرز نقطة التحوُّل الصحيحة في قصَّة الأسطول العثماني. نعم حقَّق الأسطول في عهد الفاتح انتصارات كبيرة، ولكن هذا كان عن طريق نقل القوات البرِّيَّة إلى مكانٍ ما، أو عن طريق مساعدة القوَّات البرِّيَّة الكبيرة كما حدث في فتح نيجروبونتي، أمَّا حدوث المعارك البحريَّة على نطاقٍ واسع ٍفلم يتم إلَّا في عهد بايزيد الثاني، وهذا التوازن في الرؤية هو الذي يقود إلى التحليل الصحيح.
5. والسبب الخامس -والأخير في هذا التحليل- الذي أعطى الانطباع بالانتصار الدائم للفاتح رحمه الله هو المحصِّلة النهائيَّة التي وصلت إليها الدولة العثمانيَّة في عهده، فتضاعُف الإمبراطوريَّة العثمانيَّة في الحجم، وترسُّخها في مواجهة القوى الأوروبِّيَّة الكثيرة، وتفوُّقها في المجالات الاقتصاديَّة، والعلميَّة، والسياسيَّة، وغيرها، جعل البعض يظنُّ أنَّ هذا التضخم حدث نتيجة انتصاراتٍ متتاليةٍ دون هزيمة، ولكن الصواب أنَّ حياة الفاتح كانت خليطًا من هذا وذاك، مع زيادة -لا شَكَّ- في الانتصارات المجيدة، ممَّا جعل الصورة النهائيَّة لدولته بهذا الإشراق والإبهار الذي رأيناه.
إنَّنا نسهب في هذا التحليل لنقول في النهاية: إنَّ الفاتح رحمه الله لن يخرج عن القاعدة الربَّانيَّة: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]؛ فقاعدة «المداولة» هذه أساسيَّة في حركة الأمم في الأرض، وفهمها يمنع إحباط المسلمين عند حدوث أزمةٍ لأحد كبار قادتهم، أو هزيمةٍ لإحدى دولهم القويَّة، فهذا هو «صلب» السُّنَّة الربَّانيَّة، وهي تُحقِّقُ منافع شتَّى للفرد، والمجتمع، والدولة. إنَّ هذه المداولة تجعل القائد، والجيش، والشعب كلَّه، دائمي التعلُّق بالله عزَّ وجل، كما تجعلهم دائمي البحث عن أمراضهم وأسباب هزيمتهم، فيقودهم هذا إلى الارتقاء معنويًّا وماديًّا، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ سُنَّة «المداولة» تحفظ المنتصرين من الزهو والعجب، فلا يُبالغ عند النصر في تصوير قدراته وإمكاناته لأنَّه يعلم أنَّه هُزِم قبل ذلك، وسيُهْزَم لاحقًا في وقتٍ ما، فتحميه هذه المعرفة من التكبُّر. وأخيرًا فإنَّ هذه «المداولة» تجعل القائد والأمَّة يعيشون حياة «الجدِّيَّة»، فحدوث أزمة أو مشكلة أو هزيمة، تجعل الجميع حريصًا على الخروج من هذا المأزق، وهذا يتطلَّب حماسةً، وجهدًا، وعملًا، وبُعدًا عن التَّرف والدَّعة، ولقد لفت نظري ملاحظة أحد الرحَّالة الإيطاليِّين، وهو لانجستو Langusto، في وصفه للفاتح حين قال: «كان نادرًا ما يضحك»[11]! وهذا ناتجٌ عن الحياة الشاقَّة التي يُعانيها، وعن الجدِّيَّة التي صبغت كلَّ لحظةٍ من لحظات حياته رحمه الله.
ومع أنَّ انتصارات الجيش العثماني في عهد الفاتح كانت بنسبة 61.8% بالقياس إلى كلِّ المعارك، فإنَّه ينبغي لفت النظر إلى أنَّ وجود الفاتح شخصيًّا في قيادة الحملة كان يُحْدِث أثرًا إيجابيًّا ذا قيمةٍ عالية؛ فإنَّه بالنظر إلى عدد المعارك التي شارك فيها الفاتح نجد أنَّها إحدى وثلاثون معركةً في خلال أربع وعشرين حملةً عسكريَّة، ولقد انتصر الفاتح في أربع وعشرين معركةً من أصل إحدى وثلاثين، بنسبة انتصارت تُقَدَّر بـ77.4%، وهي أعلى بشكلٍ معتبرٍ من نسبة النصر في المعارك التي لم يُشارك فيها السلطان؛ حيث وصلت هذه المعارك إلى مائة وتسع وثلاثين معركة تحقَّق النصر في إحدى وثمانين منها بنسبة نصرٍ تُقدَّر بـ58.3%.
وأيضًا ينبغي لفت النظر إلى أنَّ بعض الحملات كانت تشهد أكثر من معركة، وهذا هو السرُّ في كون المعارك التي خاضها الفاتح وصلت إلى إحدى وثلاثين معركة بينما عدد الحملات هو أربع وعشرون حملةً فقط، وعند النظر إلى الحملة ككلٍّ نجد أنَّ عدد الحملات الناجحة التي حقَّقت أهدافها في المجمل كانت عشرين حملة، بينما فشلت أربع حملاتٍ فقط، وهذا يُعطي نسبة نجاح 83.3% للحملات، وهي نسبةٌ مرتفعةٌ ورائعة.
إِذَنْ يُمكن أن نستخلص من هذه الأرقام أنَّ الجيش العثماني في عهد الفاتح حقَّق انتصارات مجيدة، ولكنَّه تعرَّض في الوقت نفسه لعدَّة هزائم، كان بعضها شديدًا وقاسيًا، لكنها لم تؤثِّر في مسيرة الدولة؛ إذ ظلَّت في تقدُّمٍ وازدهار، كما يُمكن أن نستخلص أنَّ وجود الفاتح في وسط جيشه كان مؤثِّرًا وفعَّالًا، وكان يرفع من نسبة النصر بشكلٍ واضحٍ وحقيقي.
آخر ما نذكره في هذه النقطة هي أنَّ الفاتح شارك بنفسه في 18.2% من معارك الدولة العثمانيَّة في عهده (31 من أصل 170 معركة)، ومع أنَّه كان من المشتَهر أن يخرج قائد الدولة على رأس الجيوش المحاربة في معظم معاركها -إن لم يكن كلها- سواء في الدولة العثمانية أم في غيرها من دول العالم المعاصر، فإنَّ الواقع أنَّ نسبة خروج الفاتح على رأس الجيوش في المعارك منطقيَّة، بل هي كبيرة؛ لأنَّ الدولة العثمانيَّة لم تكن تُحارب عدوًّا واحدًا، بل كانت تُحارب عدَّة أعداءٍ في آنٍ واحد، فكان يستحيل عليه أن يُشارك في كلِّ الجبهات، ولا ننسى أنَّه كان يُدير إمبراطوريَّةً واسعةً لها متطلَّباتٌ واحتياجاتٌ خارج نطاق الحرب، وهذا كلُّه يعذره واقعيًّا في عدم مشاركته لجيوش دولته في 81.8% من معاركها.
***
ثانيًا: نصر الفاتح بالقياس إلى غيره من السلاطين العثمانيين:
لم أعثر على دراساتٍ أكاديميَّة تُقارن بين نِسَب النصر في معارك الفاتح رحمه الله بالقياس إلى غيره من سلاطين الدولة العثمانيَّة الكبار، وكذلك لا توجد مثل هذه الدراسات التي تُقارن بين نسب النصر في معاركه ومثيلاتها في معارك كبار القادة العالميِّين، سواءٌ في أوروبا أم غيرها، وسواءٌ في زمنه أم في الأزمان التي سبقت أو لحقت، والحقُّ أنَّها دراساتٌ مهمَّةٌ للغاية؛ حيث ينبغي أن تقودنا إلى حسن تقويم القادة والزعماء، فلا يكون حكمنا على أدائهم انطباعيًّا؛ إنَّما يكون مبنيًّا على دراساتٍ موثَّقةٍ بأساليب علميَّة رصينة.
عمومًا حاولتُ أن أقدِّم في هذه النقطة بعض الدراسات الأوَّليَّة التي قمت بها للمقارنة بين معارك الفاتح وبعض كبار القادة العثمانيِّين، وحيث إنَّ المصادر التاريخيَّة تُجمِع على أنَّ أعظم القادة العسكريِّين في تاريخ الدولة العثمانيَّة هم بايزيد الأول، وسليم الأول، وسليمان القانوني، بالإضافة إلى محمد الفاتح، فقد قمت بجمع معارك كلِّ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة، وقارنت نِسَب النصر فيها بتلك التي وجدناها في قصَّة الفاتح رحمه الله.
بالنسبة إلى بايزيد الأول (1389- 1402م) فإنَّ دراساتي المبدئيَّة تُشير إلى أنَّ جيشه خاض في حياته ستًّا وعشرين معركة، وقد تحقَّق له النصر في عشرين منها، بينما هُزِم في ستِّ معارك، مع العلم أنَّ أربع معارك من هذه الستَّة التي لم ينجح فيها كانت حصارًا للقسطنطينية دون نجاحٍ في فتحها، فهي ليست هزائم بالمعنى المفهوم؛ إنَّما هي مجرَّد «فشل» في تحقيق الهدف، ومِنْ ثَمَّ كان الحصار يُرْفَع دون حدوث خسائر ذات قيمةٍ في الجيش العثماني. هذه النتائج كانت تُعطي نسبة نصرٍ للجيش العثماني في عهد بايزيد الأول تُقَدَّر بـ76.9%، وهي أعلى من نسبة الانتصار في عهد الفاتح بشكلٍ معتبر.
أمَّا السلطان سليم الأول (1512- 1520م) فقد أحصيتُ لجيوشه ثلاث عشرة معركة حقَّق النصر فيها كلِّها! ولم تتعرَّض جيوشه لأيِّ هزيمة، ولهذا يُعْرَف عند الأتراك بالياوز؛ أي الشديد، ويُعرف عند الغرب بالعابس The Grim، أو بالرهيب The Terrible[12]، وبالطبع تكون نسبة انتصاراته أعلى من الفاتح (100%) بل أعلى من أيِّ قائدٍ في الدولة العثمانيَّة، أو في العالم أجمع!
أمَّا بالنسبة إلى سليمان القانوني (1520- 1566م) فقد خاضت جيوشه مائة وثلاثًا وأربعين موقعةً حربيَّة، وتحقَّق له النصر في مائة وسبع عشرة موقعةً منها، بنسبة نصر تصل إلى 81.8%، وهي نسبةٌ أعلى كذلك من نسبة النصر عند الفاتح رحمه الله.
هذه الدراسة قد تُعطي الانطباع أنَّ هؤلاء أفضل من الناحية العسكريَّة من السلطان محمد الفاتح، ومع ذلك فينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عدَّة نقاطٍ يُمكن أن تُغيِّر الصورة، وهذه النقاط هي:
1. عدد المعارك: فإنَّه من المتوقَّع أنَّ زيادة عدد المعارك سيُؤدِّي إلى زيادة نسبة الهزيمة؛ لأنَّ الضغط على الجيش يكون كبيرًا للغاية، وقد خاض محمد الفاتح في هذه الدراسة المبدئيَّة أكبر عدد من المعارك في تاريخ الدولة العثمانيَّة في عهد سلطانٍ واحد، حيث خاض مائة وسبعين معركةً كما بيَّنَّا، وجاء سليمان القانوني في المرتبة الثانية بمائةٍ وثلاثٍ وأربعين، وإن كان هذا الرقم قابلًا للزيادة عند التحليل الأعمق لحملاته، حيث يُمكن أن تكون حدثت أكثر من موقعة في خلال الحملة العسكريَّة الواحدة، ثم يأتي بعد الفاتح والقانوني بفارقٍ كبير بايزيد الأول، الذي خاضت جيوشه ستًّا وعشرين معركةً فقط، بينما يأتي سليم الأول في المركز الأخير في عدد المعارك، وهو ثلاث عشرة معركة، وهذا يُفسِّر إلى حدٍّ ما انتصاره في كلِّ المعارك؛ حيث لم يكن الضغط كبيرًا على الجيش كما كان في عهد الفاتح رحمه الله.
2. ينبغي أن يُقاس عدد المعارك بالقياس إلى عدد سنوات الحكم؛ لأنَّ سنوات الحكم بين السلاطين الأربعة متفاوتة، فتحديد عدد المعارك التي كان يخوضها الجيش في كلِّ سنة سيُعطي انطباعًا أفضل عن مدى الضغط الذي كان يقع عليه، ولقد حكم سليمان القانوني ستًّا وأربعين سنةً متَّصلة، بينما حكم محمد الفاتح ثلاثين سنة، ثم بايزيد الأول ثلاث عشرة سنة، ويأتي سليم الأول بأقلِّ سنوات حكمٍ بالقياس إلى السلاطين الثلاثة الآخرين حيث حكم ثماني سنواتٍ فقط، وعلى هذا يكون معدَّل المعارك في كلِّ سنةٍ كالآتي: في عهد الفاتح رحمه الله خاضت الجيوش مائة وسبعين معركةً في خلال ثلاثين سنة، بمعدل 5.7 معارك كلَّ سنة، وهذا أعلى المعدَّلات. يأتي بعده معدَّل معارك سليمان القانوني حيث كان 3.1 معارك كلَّ سنة (143 معركة في 46 سنة)، ثم يأتي بايزيد الأول بمعدل معركتين كل سنة (26 معركة في 13 سنة)، ثم يأتي سليم الأول في المركز الأخير بمعدل 1.6 معارك كل سنة (13 معركة في 8 سنوات)، وهذا هو أحد أسباب الانتصار الدائم له؛ حيث لم يكن الضغط على جيشه كبيرًا بالقياس إلى السلاطين الثلاثة الآخرين.
3. عدد الأعداء الذين تُحاربهم الدولة: لا شَكَّ أنَّه كلَّما زاد عدد الأعداء زادت نسبة الهزيمة التي يتعرَّض لها الجيش؛ لأنَّ الجيش العثماني سيكون مطالبًا بالقتال على أكثر من جبهة في وقتٍ واحد، كما أنَّ هناك فرصةً لتوحُّد الأعداء مع بعضهم البعض ضدَّ الدولة العثمانيَّة، وتكوين أحلاف كبيرة، وجيوش مشتركة، ممَّا يرفع من نسبة نصرهم على العثمانيِّين، وبالنظر إلى أعداء كلِّ سلطان من السلاطين الأربعة نجد أنَّ أكبر عدد من الأعداء كان يُقاتل محمدًا الفاتح، فقد كان عدد أعدائه عشرين عدوًّا! ويأتي بعده سليمان القانوني حيث قاتل تسعة عشر عدوًّا، ويأتي عدد الأعداء في زمن بايزيد الأول بعدهما حيث كان ثمانية عشر عدوًّا، ثم أخيرًا يأتي سليم الأول بعد الجميع بكثير؛ حيث لم يكن يُقاتل إلَّا عدوَّين فقط هما الدولة الصفويَّة الشيعيَّة في إيران، ودولة المماليك في مصر والشام، بالإضافة إلى بعض الحروب الداخليَّة، ممَّا يُوضِّح مدي الخطورة التي كانت تتعرَّض لها جيوش الفاتح والقانوني وبايزيد الأول بالقياس إلى الخطورة التي تعرَّض لها جيش سليم الأول، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ تسعةً من الأعداء الذين كان يُقاتلهم بايزيد الأول كانوا من القبائل التركيَّة الموجودة في الأناضول؛ مثل صاروخان، وقرمان، وذي القادر، وهي جيوشٌ أضعف دون شكٍّ من جيوش القوى العالميَّة كالمجر، والبندقية، والنمسا، وإسبانيا، وهذا يُوضِّح أنَّ أعلى معدَّلات الخطورة كانت في حروب الفاتح والقانوني، وهذا مع الأخذ في الاعتبار أنَّنا لا نُقلِّل من خطورة المعارك في زمن سليم الأول، ولا من القوَّة العسكريَّة لجيشي الصفويِّين والمماليك، ولكنَّنا فقط نُفسِّر التفاوت بين نسب النصر في زمن كلِّ سلطان.
4. ينبغي أن يُنْظر كذلك إلى حجم كلِّ هزيمةٍ على حِدَة لنُقدِّر أهميَّة الهزائم التي حدثت في زمن كلِّ سلطان، فبعض الهزائم كانت مجرد «فشل» في فتح قلعة، أو هزيمة عابرة كان ضحاياها عددًا قليلًا من القتلى، ولكن هناك هزائم أخرى يفقد فيها الجيش الآلاف من الجنود، وأحيانًا عشرات الآلاف منهم، كما أنَّ هناك بعض الهزائم التي تتغيَّر فيها جغرافيَّة الدولة بعد الهزيمة، فتفقد مساحات من الأرض، وتتغيَّر أعداد الإقطاعيَّات والممالك التابعة لها، وفي التحليل المبدئي للهزائم في عهود السلاطين الأربعة نجد أنَّ جيوش سليم الأول لم تتعرَّض لهزيمة أصلًا، وأنَّ الهزائم في زمن الفاتح والقانوني لم تكن مؤثِّرة في جغرافيَّة البلد، بل كانت بلادهم في توسُّعٍ دائمٍ على الرغم من حدوث الهزائم، أمَّا بايزيد الأول فقد حدثت في زمانه هزيمةٌ كارثيَّة، وهي هزيمة أنقرة عام 1402م، التي قادت إلى انهيارٍ شبه تامٍّ للدولة العثمانيَّة، وفقدت الدولة أكثر من نصف أراضيها، وفقدت كذلك حريَّتها، فصارت تابعةً للدولة التيمورية، فهذه الهزيمة الواحدة أخطر من عشرات الهزائم اليسيرة التي لا تُحْدِث أثرًا كبيرًا بعدها، وهذه نقطةٌ لا بُدَّ أن تُؤخذ في الاعتبار.
5. ينبغي أن يُنْظَر كذلك إلى الظرف التاريخي الذي حكم فيه كلُّ سلطان، فأصعب الظروف التاريخيَّة -في رأيي- كان هو الذي واجهه الفاتح رحمه الله؛ لأنَّه تَسَلَّم جيش دولةٍ وحوَّله إلى جيش إمبراطوريَّة. هذا التحوُّل الكبير جعله يُحارب فجأة على أكثر من جبهة، كما وضع على أكتافه إدارة كيانٍ كبيرٍ يضمُّ عددًا كبيرًا من دول زماننا المعاصر، وهذا كلُّه دون خبرةٍ سابقةٍ في إدارة الإمبراطوريَّات، ولا نعني خبرة الفاتح فقط، ولكن خبرة الحكومة كلِّها، وكذلك خبرة الجيش الذي صار لزامًا عليه أن يُقاتل عددًا كبيرًا من الأعداء لهم استراتيجيَّات مختلفة في القتال، بل تتعدَّد أنواع أسلحتهم وتحصيناتهم، خاصَّةً أنَّ زمن الفاتح كان يشهد انتقال الدنيا من زمن العصور الوسطى إلى زمن العصور الحديثة، وكانت الحروب تشهد المدافع والبارود والبنادق لأوَّل مرَّةٍ في تاريخ الأرض، فكان التعامل مع كلِّ هذه المتغيِّرات أمرًا صعبًا يجعل احتمال الهزيمة واردًا جدًّا. هذا بالنسبة إلى الفاتح رحمه الله، أمَّا بالنسبة إلى سليم الأول، ثم سليمان القانوني، فكلاهما تَسَلَّم إمبراطوريَّةً متكاملة، لها جيشٌ نظاميٌّ قوي، وعندها خبرةٌ في التعامل مع الأعداء المختلفين، ولها تاريخٌ من الانتصارات يدعم وجودها في العالم، فهذا أدعى إلى تحقيق النصر في المعارك بشكلٍ أكبر، وهو يُفسِّر ارتفاع نسبة النصر لجيوشهما عن مثيلتها بالنسبة إلى جيش الفاتح. أمَّا بايزيد الأول فكان في ظرفٍ صعبٍ هو الآخر؛ حيث كانت عنده الرغبة في تحويل دولته إلى إمبراطوريَّة، لكنَّه كان متسرِّعًا في ذلك، ولم تكن له حكمة الفاتح، فأوقع دولته في المحظور عندما توسَّع بمعدلٍ أكثر من اللازم، كما أنَّه لم يُقدِّر خطورة الجيوش المواجهة له فتجرَّأ على مواجهة جيش تيمورلنك، مع أنَّ المنطق كان يقتضي محاولة تجنُّب المواجهة، خاصَّةً أنَّ البناء الداخلي للدولة لم يكن قويًّا وراسخًا كما كان في عهد الفاتح، وهذا كلُّه أدَّى إلى انهيار دولته بعد هزيمتها في أنقرة. لقد كانت أصعب الظروف التاريخيَّة هي التي واجهت الفاتح وبايزيد الأول، لكن قدرة الفاتح على التعامل مع ظرفه التاريخي كانت أعلى بكثيرٍ من قدرة بايزيد الأول، وهذا هو الذي أحدث الفارق الكبير في النتائج بين السلطانين، ومع علمنا أنَّ الظرف التاريخي لكلٍّ من سليم الأول وسليمان القانوني كان صعبًا كذلك لتعدُّد أعداء الدولة، واتِّساع مساحتها، إلَّا أنَّه لا شَكَّ كان أفضل وأسهل من هذا الذي عاشه الفاتح وبايزيد الأول.
6. أخيرًا ينبغي أن ينظر كذلك إلى الجوانب الأخرى في الدولة، وإلى التكامل في إدارتها، لأنَّ السلطان المشغول بالعمل في أكثر من جهة، والتقدُّم في أكثر من مجال، سيكون جيشه معرَّضًا لهزائم أكثر؛ وذلك لأنَّ إمكانات الدولة غير موجَّهة بكاملها للحروب، ولقد كان التكامل واضحًا في زمان الفاتح رحمه الله، وذلك على المستويات السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والعلميَّة، والاجتماعيَّة، وكان أوضح وأفضل في زمان سليمان القانوني، ولكنه كان بدائيًّا ومحدودًا في زمان بايزيد الأول، أمَّا سليم الأول فكان يُدير دولةً عسكريَّةً تمامًا، ولم يكن له انشغالٌ إلَّا بالجيش، وهذا يُفسِّر انتصاراته المتتالية، ولكن كان هذا على حساب تخلُّف دولته في مجالات أخرى كثيرة، ومن سعادة الدولة العثمانيَّة أنَّ فترته لم تطل، وإلَّا كانت قد تحوَّلت إلى كيانٍ عسكريٍّ فقط، وهذه الكيانات العسكريَّة لا تعيش في العادة فترات طويلة؛ إنَّما تعيش كيانات الحضارة، وهي الكيانات المتكاملة التي تُحقِّق أهداف بناء الدولة بشكلٍ متوازن.
****
ثالثًا: نسبة المعارك ضد الجيوش الإسلامية:
هناك مسألةٌ مهمَّةٌ للغاية من الناحية الفكريَّة والأيديولوچيَّة في تحليل معارك الفاتح رحمه الله، بالقياس إلى معارك القادة الكبار في الدولة العثمانيَّة، وتحديدًا القادة الثلاثة الذين ناقشنا معاركهم في النقطة السابقة، وهذه المسألة هي نسبة المعارك التي خاضها كلُّ سلطانٍ ضدَّ جيوشٍ إسلاميَّةٍ أخرى. لقد كانت معارك الدولة العثمانيَّة خليطًا من الحروب ضدَّ أوروبا النصرانية، وكذلك ضدَّ بعض الجيوش الإسلاميَّة، سواء في الأناضول، أم الشام، أم مصر، أم إيران، وتحديد نوعيَّة هذه المعارك يُوضِّح فِكْر القائد وأسلوبه في ترسيخ حكمه.
خاض الفاتح رحمه الله ثلاث عشرة معركة، من أصل مائةٍ وسبعين معركة ضدَّ جيوشٍ مسلمة؛ كانت ثمانٍ منها ضدَّ قرمان التركية، وأربع ضدَّ الآق قوينلو الإيرانيَّة، وواحدةٌ ضدَّ إمارة إسفنديار التركيَّة، وهذا يُعطي نسبة 7.6% من المعارك، ثم ترتفع النسبة في عهد سليمان القانوني فتصل إلى 28% من المعارك ضدَّ مسلمين؛ حيث خاض أربعين موقعة من مائةٍ وثلاثٍ وأربعين موقعةً ضدَّ جيوشٍ مسلمة، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ أربعًا وعشرين معركةً من هذه المعارك الأربعين كانت ضدَّ الدولة الصفويَّة الشيعيَّة، ثم تعلو النسبة أكثر وأكثر في عهد بايزيد الأول؛ حيث نجد أنَّه خاض ثلاث عشرة معركةً من معاركه الستَّة وعشرين ضدَّ جيوش مسلمة؛ أي بنسبة 50% من المعارك، ثم أخيرًا نجد أنَّ سليم الأول حارب «كلَّ» معاركه بنسبة 100% من المعارك، ضدَّ جيوشٍ مسلمة، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ أربع معارك من أصل ثلاث عشرة معركةً كانت ضدَّ الدولة الشيعيَّة الصفويَّة، بينما كانت تسع معارك ضدَّ المسلمين السُّنَّة، سواءٌ من المماليك أم الأتراك أم غيرهم.
من المفهوم بالطبع أنَّه من الممكن شرعيًّا قتال المسلم إذا كان متعدِّيًا على الدولة المسلمة، وأنَّ الدولة العثمانيَّة لها أسبابها في قتال بعض الإمارات أو الدول المسلمة، ولكن التفاوت الكبير بين النسب يجعلنا نفهم أنَّ هناك اختلافًا في الرؤية بين القادة المذكورين؛ فانخفاض النسبة إلى 7.6% في عهد الفاتح تُوضِّح أنَّه كان متجنِّبًا عن عمدٍ قتال المسلمين، وكان واضح الرؤية في قتال أعداء الأمَّة من صليبي أوروبا، خاصَّةً إذا نظرنا إلى معاركه ضدَّ المسلمين فوجدنا أنَّهم بدءوه بالقتال، على الأقلِّ في حالتي قرمان والآق قوينلو. كذلك يُمكن القول: إنَّ نسبة المعارك ضدَّ المسلمين في عهد القانوني تُعَدُّ معقولة؛ لأنَّ هناك أربعًا وعشرين معركةً كانت ضدَّ الدولة الصفويَّة (16.8% من المعارك)، وهي دولةٌ معاديةٌ كانت لها أهدافٌ كبرى في إسقاط الدولة العثمانيَّة، بل في تحويل المسلمين السُّنَّة عن عقيدتهم، فإذا استثنينا نسبتهم كانت نسبة قتال القانوني للكيانات المسلمة هي 11.2% فقط، وهي نسبةٌ غير مرتفعةٍ خاصَّةً إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ هناك دولًا إسلاميَّةً كانت قد دخلت في تبعيَّة الإمبراطوريَّة العثمانيَّة مثل الشام، ومصر، وليبيا، وتونس، والجزائر، ممَّا يجعل فرصة الصدام مع كيانات مسلمة في هذه البلاد، أو حولها، أمرًا واردًا.
الدولة الصفوية العدائية في أربع معارك، (30.8% من معاركه) إلَّا أنَّه في الواقع غير معذورٍ قط في قتال دولة المماليك، أو غيرها من الكيانات المسلمة؛ حيث بلغت نسبة قتال هذه الدول 69.8% من المعارك، وهي نسبةٌ مرتفعةٌ للغاية، خاصَّةً أنَّ سليم الأول كان هو البادئ بالعدوان في معظم الحالات، ممَّا يُوضِّح فقدان الرؤية السليمة، وغياب البعد الشرعي عن فِكْرِه وتخطيطه، بعكس الفاتح والقانوني.
إنَّ هذه الدراسات المقارِنة تُثبت بما لا يدع مجالًا للشَكِّ أنَّ الفاتح رحمه الله كان نموذجًا للأمير الفاهم الواعي، الذي يُدرك مصلحة أمَّته وشعبه، والأهم من ذلك أنَّه لم يكن يُخالف الشرع من أجل تحقيق المصلحة للأمَّة، وهو المسوِّغ الذي يتعلَّل به بعض المدافعين عن سليم الأول، من كونه فعل ذلك لمصلحة الدولة العثمانيَّة؛ حيث ضاعف حجمها ثلاث مرَّات بعد انتصاراته الباهرة على المماليك، وحوَّلها إلى قوَّةٍ عالميَّةٍ مؤثِّرةٍ للغاية، ونحن نقول: إنَّ تحقيق المصلحة المادِّيَّة على حساب المصلحة الشرعيَّة والأخلاق هو خطأٌ جسيم، وله أضراره بعيدة المدى على الأمَّة، وهذا هو الفارق الرئيس في المعايير الإسلامية لتقويم القادة، حيث تُحْتَرم الشريعة في رؤية بعضهم، بينما يَعُدُّها آخرون نوعًا من القيود يُحاولون التحرُّر منها بكلِّ ما استطاعوا من قوَّة، وشتَّان بين الفريقين!!
***
رابعًا: النشاط والهدوء العسكريان في سنوات حكم الفاتح:
ذكرنا أنَّ الفاتح خاض مائة وسبعين معركةً في خلال ثلاثين سنة من الحكم، وهذا يُعطي معدل 5.7 معارك كلَّ سنة. هذا بشكلٍ عامٍّ، أمَّا حين النظر بشكلٍ أعمق نجد أنَّ بعض السنوات كانت مزدحمةً بالمعارك، بينما شهدت سنواتٌ أخرى نوعًا من الهدوء النسبي، وهذا التحليل الدقيق يُؤدِّي إلى بعض الاستنباطات المفيدة، وهذه هي بعض النتائج لهذا التحليل:
1. لم تكن هناك سنةٌ واحدةٌ في كلِّ عهد الفاتح لم تشهد معارك! حَكَم الفاتح ثلاثين سنة، فقاتل فيها جميعًا بلا استثناء واحد! وهذه من أعجب الملاحظات في تاريخ الدول؛ حيث إنَّه من المعتاد أن تُقاتل الدولة عدَّة سنوات، ثم تستريح عددًا آخر من السنين، ثم تستأنف نشاطها من جديد، وهكذا، أمَّا أن نجد سِجِلَّ المعارك يشمل كلَّ سنوات حكم الفاتح فهذا أحسبه غير متكرِّرٍ في تاريخ العالم.
2. تمرُّ على الدولة سنوات سعيدة يتحقَّق النصر دون هزيمة، أو سنوات كبيسة ثقيلة تتعرَّض الدولة فيها لهزائم كبيرةٍ وأحيانًا بلا نصر.. عند النظر المبدئي إلى المعارك قد يظنُّ بعضهم أنَّ أسعد سنوات الدولة هي سنة 1460م مثلًا، أو سنة 1468م، أو غيرها من السنوات التي تحقَّق فيها النصر دون هزيمة، وقد يُظنُّ كذلك أنَّ أتعس سنواتها هي سنة 1457م حيث حدثت فيها خمس هزائم، ولم يحدث فيها نصر. لكن عند التحليل الدقيق ينبغي النظر إلى حجم الهزائم أو الانتصارات، وإلى تغيُّر جغرافيَّة الدولة إلى الزيادة أو النقصان، حتى نعلم أفضل السنوات في تاريخ الدولة، وكذلك أسوأ هذه السنوات، وهذا قد يُفيدنا في تحليل الأسباب التي أدَّت إلى هذا الوضع من العلوِّ أو الانخفاض.
الإفلاق بعد الانتصار على دراكولا المرعب، ولن تحدث اضطرابات في الإفلاق لمدَّة إحدى عشرة سنةً كاملة، حيث لن يُسْمَع عن تمرُّد هناك إلَّا في عام 1473م، وكذلك فُتِحت جزيرة ليسبوس في بحر إيجة، وهو فتحٌ صعبٌ بالقياس إلى الإمكانات البحريَّة المحدودة للدولة العثمانيَّة في هذا التوقيت، ولعلَّ هذا النصر هو الذي فتح شهيَّة الدولة لاستكمال بناء أسطولها ليكون قادرًا على مقارعة البنادقة والچنويِّين بعد هذا الانتصار.
ما السرُّ وراء هذا التفوُّق العثماني في هاتين السنتين تحديدًا؟!!
يُمكن أن نُرجع ذلك إلى عدَّة أسباب؛ منها غلق الملف البيزنطي تمامًا، فلا شَكَّ أنَّ الدولة البيزنطيَّة كانت الهاجس الأكبر للعثمانيِّين طوال العقود السابقة، ومع أنَّ الفاتح كان قد انتهى من المشكلة الأكبر فيها بعد فتح معقلهم الأكبر في القسطنطينية، فإنَّه بقي للبيزنطيِّين أماكن مهمَّة حسَّاسة للغاية في الأناضول واليونان، وهي مملكة طرابزون في شمال الأناضول، ومعظم إقليم المورة، وقد استطاع الفاتح أن يضمَّ اليونان بكاملها -باستثناء بعض المدن الساحليَّة التابعة للبندقيَّة- في عام 1460م، وضُمَّت مملكة طرابزون في عام 1461م، ولهذا فعند دخول سنة 1462م كان الفاتح قد أغلق ملفَّ الدولة البيزنطيَّة بصورةٍ نهائيَّةٍ تقريبًا، ولم يعد لهم في العالم أيُّ ولاياتٍ تابعة، باستثناء إمارة تيودورو، وهي إمارةٌ صغيرةٌ في شبه جزيرة القرم، بجنوب روسيا، ولم تكن مؤثِّرة في الأحداث في هذا التوقيت، فيكون هذا هو السبب الرئيس في تفرُّغ الجيش العثماني للعمليَّات العسكريَّة الأخرى بعد الانتهاء من الجيوش البيزنطية تمامًا، ومِنْ ثَمَّ تحقيق نسبة نصرٍ عالية. أيضًا من الأسباب التي أدَّت إلى التفوق في هاتين السنتين تركيز الدولة على محاربة أعداء بعينهم دون التشتُّت في جبهات كثيرة، فكان قتال الجيش العثماني في عام 1462م مُرَكَّزًا على الجبهة الشماليَّة لمواجهة جيوش الإفلاق، أمَّا في عام 1463م فكانت معظم المعارك في الجبهة الغربيَّة في مواجهة البوسنة وألبانيا. هذا التركيز حقق دون جدال النجاح في المعارك المختلفة. أمَّا معارك الدولة العثمانيَّة مع البندقية فكانت في بداياتها، وكان من الواضح أنَّ البندقية تفاجأت بالحرب، فكانت الغلبة في عام 1463م واضحةً للجيش العثماني. يُضاف إلى الأسباب المؤدِّية لتفوُّق العثمانيِّين في هاتين السنتين ازدياد نسبة مشاركة السلطان الفاتح في المعارك، فإنَّنا نجد أنَّه قد شارك في سبع معارك من أصل سبع عشرة معركة، وهذا يُعطي نسبة مشاركة تُقدَّر بـ41.2%، وهذا أعطى دفعةً قويَّةً إلى الجيش العثماني، وقد ذكرنا قبل ذلك أنَّ مشاركة الفاتح في المعارك كانت ترفع من نسبة النصر بشكلٍ معتبر.
هاتان هما أفضل سنتين للجيش العثماني في عهد الفاتح، إذا ما استثنينا عام 1453م، الذي نجح فيه الجيش العثماني في فتح القسطنطينية، وتغيير موازين القوى في أوروبا بشكل لافت.
أما أسوأ سنتين فكانت عام 1464م، و1465م، وذلك لأنَّ الجيش العثماني خاض في هاتين السنتين اثنتي عشرة موقعةً حربيَّة، تَحقَّق له النصر في خمس فقط، بينما هُزِم في سبع معارك كاملة؛ أي كانت نسبة النصر 41.7% فقط، وهي من أقلِّ نسب النصر في تاريخ الدولة في عهد الفاتح، والواقع أنَّ السنتين التاليتين -أي عامي 1466م و1467م- كانتا غير ناجحتين أيضًا؛ حيث خاض الجيش العثماني فيهما إحدى عشرة معركة، انتصر في أربع فقط؛ أي بنسبة نصر 36.4% فقط، فهذه أربع سنواتٍ من التعثُّر والاضطراب، ومتوسِّط نسبة النصر في هذه السنوات الأربع هو 39.1% وهي نسبةٌ منخفضةٌ بشكلٍ لافتٍ للنظر.
ما السرُّ في هذا التعثُّر؟ وما الأسباب وراء هذه الانتكاسة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نُشير إلى ملاحظةٍ مهمَّة، وهي أنَّ هذه السنوات الأربع الصعبة أتت بعد أفضل عامين في عهد الفاتح، وهما عاما 1462 و1463م، واللذان شَهِدَا تفوقًا ملحوظًا للجيش العثماني، فمِنَ الواضح أنَّ هناك ارتباطٌ بين الأمرين. ما هذا الارتباط؟! أوَّلًا: يُمكن القول: إنَّ الجيش العثماني أُرْهِق بشدَّة في عامي 1462 و1463م، حيث خاض سبع عشرة موقعة بعيدة عن الديار، خاصَّةً أنَّ فتح البوسنة تطلَّب أن تبقى الحاميات العثمانيَّة في هذا المكان النائي عن القسطنطينيَّة والأناضول، ممَّا يُمكن أن يُسهم في إرهاق الجيش ومعاناته، وثانيًا شهدنا في عام 1463م دخول الدولة العثمانيَّة في حربٍ كبرى مع البندقيَّة، ولئن كانت سنة 1463م إيجابيَّةً لصالح الدولة العثمانيَّة، فإنَّ السنوات الأربع التالية كانت إيجابيَّة لصالح البندقيَّة بشكلٍ كبير، وهذا متوقَّع؛ لأنَّ جمهوريَّة البندقيَّة دولةٌ عملاقة، ولها إمكاناتٌ عسكريَّةٌ متطوِّرة، وطاقاتٌ اقتصاديَّةٌ كبيرة، وكان من المتوقَّع أن يكون ردُّ فعلها مؤثِّرًا. نَعَمْ حدث التوازن بعد ذلك، ثم صارت الغلبة للجيش العثماني في نهاية المطاف، لكن كان من الطبيعي أن تشهد سنوات الصدام الأولى تأثُّرًا عثمانيًّا لدخول البندقيَّة بثقلها في الصراع. أمَّا الأمر الثالث الذي يُمكن أن يُفسِّر هبوط مستوى الدولة العثمانيَّة في هذه الأعوام فهو عامل نفسي سلبي خطر يُمكن أن يكون له دورٌ في المسألة، وهو عامل العُجْب والزَّهو بعد النجاح في عامي 1462، 1463م، وهذا يحدث مع كثيرٍ من الجيوش المنتصرة، خاصَّةً أنَّ الجيش العثماني زاد في العدد والإمكانات بعد فتح البوسنة، وكذلك بعد ضمِّ بعض إمارات الأناضول عام 1461م، فهذه الزيادة العددية قد تدفع إلى الغرور الذي يأتي معه بالانتكاسات، ولن ينسى المسلمون الكلمة الشهيرة التي قيلت في يوم حنين: «لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ»[14]. فإنَّ آثار هذا القول كانت جسيمة، فإذا كان هذا التدهور قد حدث مع الجيل الأوَّل، وهو أفضل القرون والأجيال، فإنَّ حدوثه مع الأجيال اللاحقة أوقع وأجدر. يُضاف إلى الأسباب الثلاثة السابقة سببٌ رابعٌ هو دعم البندقيَّة لإسكندر بك في حربه للدولة العثمانيَّة، وذلك بعد دخول البندقيَّة في معادلة الصراع، ممَّا زاد من قدرات إسكندر بك والألبان فأدَّى إلى هذا التحوُّل في دفَّة الأمور. الذي يدعونا إلى هذا التحليل هو ملاحظة أنَّ هزائم الدولة العثمانيَّة من إسكندر بك في هذه السنوات الأربع بلغت تسع هزائم كاملةً من أصل أربع عشرة هزيمة تعرَّضت لها الدولة العثمانيَّة في هذه الحقبة؛ أي بنسبة 64.3%، وهي نسبةٌ تُوضِّح مدى تفوُّق إسكندر بك في هذه السنوات على الجيش العثماني، ومن الجدير بالذكر أن نعلم أنَّ أربعًا من الهزائم الخمس المتبقِّية كانت على يد البندقيَّة، أمَّا الهزيمة الأخيرة فكانت من المجر، وكانت هزيمة كبيرة، إذا أعقبها فَقْد إقليم يايسي من البوسنة لصالح المجر، وسيبقى في حوزتهم طوال عهد الفاتح، بل لمدَّةٍ تزيد عن نصف قرن. ويُمكن -تبعًا لهذا التحليل- أن نُضيف سببًا خامسًا لهذا الاضطراب الذي حدث في هذه الأعوام، وهو اطمئنان الفاتح إلى جبهة ألبانيا في أواخر عام 1463م؛ حيث إنَّه كان قد عقد هدنةً مع إسكندر بك لمدَّة عشر سنوات، ولكن غدر إسكندر بك في عام 1464م واقتحم مقدونيا العثمانيَّة، وحقَّق انتصاراته المتكرِّرة على الدولة، فقد تكون هزائم الجيش العثماني في هذه الفترة ناتجة عن قدوم الخطر من جهةٍ غير متوقَّعةٍ بسبب الهدنة التي ذكرناها، وهذا خطأٌ لا شَكَّ من الدولة العثمانيَّة؛ لأنَّ غَدْرَ إسكندر بك متوقَّع، بل متكرِّر بشكلٍ دائم، وذلك في كلِّ عهوده، سواء في أيَّام مراد الثاني، أم أيَّام السلطان الفاتح.
لا يمنعنا هذا التحليل طبعًا من إدراك أنَّ هناك سنوات أخرى سعيدة مرَّت بالدولة العثمانيَّة كسنة 1453م، التي تحقَّق فيها فتح القسطنطينيَّة، وكسنة 1475م، التي حقَّق فيها العثمانيُّون النصر في ستِّ معارك من أصل سبعة؛ أي بنسبة نصر 85.7%، وأنَّ هناك سنوات أخرى صعبة كسنة 1454م، التي حقَّق فيها العثمانيُّون نصرين من أصل أربع معارك؛ أي بنسبة نصر 50%، أو كسنة 1474م، التي حقَّق العثمانيُّون فيها نصرًا واحدًا وهُزِموا مرَّتين؛ أي بنسبة نصر 33.3%. نعم نُدرك هذه التقلُّبات، ولكن النظرة الشاملة لكلِّ عهد الفاتح هي التي رجَّحت اختيارنا لأفضل السنوات وأصعبها.
3. بالنظر إلى المعارك نُدرك أنَّ هناك فترات هدوءٍ نسبيٍّ تقل فيها المعارك، وإن كانت لا تنقطع أبدًا، وهناك فترات نشاط زائد تحدث فيها المعارك بشكلٍ متتالٍ لافتٍ للنظر، ومتابعة هذه الفترات يُفيد في التحليل المنطقي لعمليَّات الجيش العثماني. يُمكن تقسيم عهد الفاتح إلى أربع فترات متباينة:
الفترة الأولى: وهي السنوات العشر الأول، من سنة 1451م إلى سنة 1460م، وقد تمَّت فيها ثلاث وأربعون معركة؛ أي بمعدل 4.3 معارك في السنة، وهو معدَّل منخفض نسبيًّا؛ أي كانت هذه فترة هدوء نسبي في عهد الفاتح.
الفترة الثانية: وهي السنوات السبع التالية، أي من سنة 1461م إلى سنة 1467م، وهي فترة نشاطٍ كبير؛ إذ حدثت فيها سبع وأربعون موقعة؛ أي بنسبة 6.7 مواقع في السنة.
الفترة الثالثة: وهي السنوات السبع التالية، أي من سنة 1468م إلى سنة 1474م، وهي فترة هدوء نسبيِّ مرَّةً ثانية؛ إذ خاض الجيش العثماني فيها سبعًا وعشرين موقعة؛ أي بمعدل 3.9 معارك في السنة (قريبًا من معدل الفترة الأولى).
الفترة الرابعة والأخيرة: وهي آخر ست سنوات في حياة الفاتح، أي من سنة 1475م إلى سنة 1481م، وهي أنشط الفترات قاطبةً في عهد الفاتح؛ إذ خاض الجيش العثماني فيها ثلاثًا وخمسين موقعةً كاملة؛ أي بمعدل 8.8 مواقع في السنة الواحدة!
هذا التقلُّب بين الهدوء والنشاط مفهومٌ وصحيٌّ؛ لأنَّه لا بُدَّ للجيوش والدولة من سكينةٍ بعد النشاط، ولا بُدَّ لهم من فَوْرَةٍ وحركةٍ بعد الهدوء، ورؤية مثل هذا النسق من الهدوء والنشاط يُعطينا الانطباع الإيجابي بأنَّ الدولة تسير في خطٍّ منطقيٍّ ومعقول، فهذه علامةٌ صحيَّةٌ جيِّدة، أمَّا الدول التي تشهد نشاطًا بلا فترات هدوء فإنَّها تنهار بشكلٍ مفاجئ، وكذلك الدول التي تعيش هدوءًا دون حركة فإنَّها غالبًا ما تفقد هيبتها، ويهبط مستوى جيشها وطاقاتها.
هذه الملاحظة السابقة -أي التقلب بين الهدوء والنشاط- مهمَّةٌ في فهم طبيعة القيادة الحكيمة للدولة، التي حافظت على هذه النسق الصحي، والحقُّ أنَّه ينبغي أن نأخذ هذه الملاحظة في ضوء إدراك أمرين مهمَّين يُمكن أن يكون لهما دورٌ في فهم طبيعة الدولة العثمانيَّة في عهد الفاتح رحمه الله.
أمَّا الأمر الأوَّل فإنَّه حتى في فترات الهدوء النسبي فإنَّ الجيش كان يُقاتل أربع معارك تقريبًا في السنة، وهذه معدلات عالية بالنسبة إلى الجيش العثماني في عهود السلاطين الآخرين، كما أنَّها معدلات عالية بالنسبة إلى جيوش العالم بشكلٍ عامٍّ، سواءٌ في عهد الفاتح، أم في العهود التي سبقت أو لحقت، وهذا يُبرز الطبيعة الجهاديَّة الواضحة لهذا العهد.
وأمَّا الأمر الثاني فهي ملاحظةٌ عجيبة؛ وهي أنَّ أعظم فترات الفاتح نشاطًا كانت الفترة الأخيرة من حياته؛ أي آخر ستِّ سنوات من حكمه؛ فقد خاض فيها الفاتح ثلاثًا وخمسين موقعةً من أصل مائة وسبعين موقعةً في كامل فترة حكمه؛ أي 31.2% من معاركه، فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّه قد تعرَّض لأمراضٍ كثيرةٍ في هذه الفترة كانت تقعده عن الحركة فترات طويلة أدركنا مدى الجهد الذي بذله الفاتح في أخريات عمره، وإنَّه لمن التوفيق الكبير أن يُكثِّف الفاتح هذه الجهود الضخمة في السنوات الأخيرة من حياته، وهي علامةٌ من علامات قبول الله للعمل، وحبِّه للعبد، وقد روى أَنَسُ بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ، حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ، أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ، بِعَمَلٍ صَالِحٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ»[15].
لقد استعمل الله عز وجل الفاتح خير استعمال، فقد وُفِّق للعمل الصالح في آخر عمره، بل يجب أن نتذكَّر الآن أنَّه مات في أرض الجهاد، وبعد تحرُّك الجيش لحملةٍ عسكريَّةٍ كبيرة، وهذه نهايةٌ منطقيَّةٌ ومتوقَّعةٌ لرجلٍ قضى حياته في هذا الجهاد المتواصل، وارتفعت وتيرة الجهاد في آخر عمره بهذه الصورة.
رحم الله المجاهد الكبير الصالح محمدًا الفاتح.
4. قمت بتحليل نسب النصر والهزيمة في الفترات الأربعة التي ذكرناها في النقطة السابقة فوجدتُ مفاجأةً لافتة للنظر!
في الفترة الأولى؛ من سنة 1451م إلى سنة 1460م، خاض الجيش ثلاثًا وأربعين موقعة، انتصر في سبع وعشرين، وهُزِم في ست عشرة منها، بنسبة نصر 62.8%، وفي الفترة الثانية؛ من سنة 1461م إلى سنة 1467م، خاض الجيش سبعًا وأربعين موقعةً انتصر في ثلاث وعشرين، وهُزِم في أربع وعشرين، بنسبة نصر 48.9%، أمَّا الفترة الثالثة؛ أي من سنة 1468م إلى سنة 1474م، تمَّت سبع وعشرون موقعة، انتصر الجيش في ست عشرة منها، وهُزِم في إحدى عشرة، بنسبة نصر 59.3%، أمَّا الفترة الرابعة والأخيرة؛ أي من سنة 1475م إلى 1481م، فقد خاض الجيش ثلاثًا وخمسين موقعة، حقَّق النصر في تسع وثلاثين منها، بينما حدثت له الهزيمة في أربع عشرة منها، بنسبة نصر 73.6%.
لعلَّنا لاحظنا في هذه الأرقام أنَّ نسب النصر في الفترتين الأوليين كانتا منخفضتين، بينما العكس من ذلك كان في الفترتين الأخريين، وإذا أردنا توضيحًا أكثر أخذنا متوسِّط نسبة النصر في الفترتين الأوليين معًا؛ أي في النصف الأوَّل من حكم الفاتح، من سنة 1451م إلى سنة 1467م، فهذا يُعطي نسبة نصر 55.6% فقط، بينما متوسِّط نسبة النصر في الفترتين الأخريين معًا؛ أي في النصف الثاني من حكم الفاتح رحمه الله، من سنة 1468م إلى سنة 1481م، كانت 68.8%، والفارق بين النسبتين معتبرٌ جدًّا!
هذا أمرٌ لافتٌ جدًّا وينبغي الوقوف أمامه، لنفهم السِّرَّ وراء هذا التباين؛ أي السرَّ وراء ارتفاع مستوى الجيش العثماني بهذه الصورة الواضحة في النصف الثاني من عهد الفاتح رحمه الله. إنَّ هذا يرجع لعدَّة أسباب منها ما يلي:
1. في النصف الأوَّل من عهد الفاتح لم تكن أمور الدولة قد استقرَّت بعد، خاصَّةً في القسطنطينيَّة العاصمة، وفي الأناضول، وهي المعقل الرئيس للعثمانيِّين، فقد كانت نسبة النصارى في القسطنطينيَّة عالية جدًّا، ثم غيَّر الفاتح ديموجرافيَّة العاصمة عن طريق نقل مسلمين للحياة فيها، واحتاج لعدَّة سنوات كي تأخذ المدينة شكلها الإسلامي النهائي، أمَّا الأناضول فكانت فيه الكثير من البقاع غير التابعة للعثمانيِّين؛ فقد كان فيه مملكة طرابزون البيزنطيَّة، وفيه بعض المدن لچنوة الإيطاليَّة، وكذلك بعض الإمارات التركيَّة غير الموالية للعثمانيِّين، بل العدائيَّة لهم أحيانًا كقرمان، ولقد كان هذا الاضطراب في عمق البلاد سببًا في انخفاض نسبة النصر للجيش العثماني، فلمَّا استقرَّت الأوضاع بعد عدَّة سنوات بدأ الجيش العثماني في جني ثمار هذا الاستقرار، وحقَّق النصر بنسب أعلى.
2. من الأسباب كذلك التي أدَّت إلى ارتفاع نسبة النصر في النصف الثاني من عهد الفاتح تطوُّر الجيش وتفوُّقه الإعدادي، وهذا هو جهد السلطان الفاتح رحمه الله؛ فقد كان الجيش العثماني في النصف الأوَّل من عهد الفاتح هو نتاج عمل السلطان السابق مراد الثاني، وهو، وإن كان جيِّدًا، إلَّا أنَّه ليس بدرجة التفوق نفسها التي أحدثها الفاتح رحمه الله، خاصَّةً أنَّ الفاتح لم يكن مهتمًّا بالقوَّات البريَّة فقط؛ إنَّما اهتمَّ بالأسطول كذلك، وهذا حقَّق إنجازات ضخمة في النصف الثاني من عهده رحمه الله، سواء في البحر الأسود، أم في بحر إيجة، أم في البحر الأيوني.
3. لا شَكَّ أنَّه من الأسباب أيضًا هو زيادة خبرة الفاتح كقائدٍ لهذه الجيوش العملاقة، وكذلك زيادة خبرة القادة العسكريِّين، والوزراء، بل الجنود كذلك، وأيضًا زيادة الخبرة بالأراضي المفتوحة، والأراضي التي تمَّ فيها قتالٌ قبل ذلك، فعلى سبيل المثال كانت نتائج الجيش العثماني في حروبه بألبانيا في النصف الثاني من عهد الفاتح أفضل بكثيرٍ من نتائجه في النصف الأوَّل، ومن أسباب ذلك ازدياد خبرة الفاتح وجيشه بأرض ألبانيا، وطبيعة المقاومة فيها، وكل هذا رفع من فرصة النصر في هذه الحقبة عن الحقبة التي سبقتها.
4. في النصف الثاني من عهد الفاتح زادت أعداد الجيش العثماني بشكلٍ لافت، كحملة ألبانيا في عام 1478م كانت تضمُّ أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل، وهذه الزيادة العدديَّة كان لها أثرٌ ملموسٌ في تحقيق النصر، وسبب الزيادة في العدد هو دخول جزءٍ كبيرٍ من الأناضول في تبعيَّة الدولة العثمانيَّة، مثل: قرمان، وإسفنديار، وغيرهما. كذلك انضمام القرم إلى الدولة العثمانيَّة في عام 1475م، واشتراك المغول المسلمين في الحروب العثمانيَّة، وأيضًا إسلام عددٍ كبيرٍ من أهل البوسنة، ومشاركتهم للجيش العثماني في حملاته، ولقد كانت حملات الفريولي في إيطاليا معتمدة بشكلٍ كبيرٍ على هؤلاء البوسنويِّين، فهذا كلُّه يُفسِّر ازدياد قوَّة الجيش العثماني مع مرور الوقت.
5. بدأ الفاتح في النصف الثاني من عهده في جني ثمار الأعمال العلميَّة الكبرى التي قام بها في دولته، فهذا الجهد العلمي أفرز طاقات شابَّة متميِّزة كانت لها إنجازات مهمَّة في الجيش والدولة، ولم تظهر هذه الآثار إلَّا في النصف الثاني من عهد الفاتح عندما نضجت هذه الطاقات بشكلٍ يُفيد الدولة ويُحقِّق لها المجد.
6. في النصف الثاني من عهد الفاتح كانت قدرات الفاتح على التواصل مع العلماء الأوروبيِّين قد زادت بشكلٍ ملحوظ، فاستفاد الفاتح على المستوى العسكري والتقني من خبرات هؤلاء العلماء، وأضاف هذا إلى قوَّة الجيش العثماني، كما ازدادت علاقات الفاتح المخابراتيَّة بعناصر أوروبِّيَّة كثيرة، فأدَّى هذا إلى ازدياد قوَّة الجيوش العثمانيَّة، وأدَّى أيضًا إلى كشف نقاط ضعف الجيوش الأوروبِّيَّة والتحصينات العسكريَّة، ممَّا أسهم في ازدياد نسبة نجاح الجيش في معاركه.
7. تطوَّرت علاقات الفاتح الدبلوماسيَّة مع مرور الوقت، وصارت موازين القوى في أوروبَّا لصالحه، وكان يعقد المعاهدات المؤثِّرة مع بعض أطراف الصراع في أوروبَّا بشكلٍ يُحقِّق له النصر في معاركه، وما أوضح ذلك في قصَّة غزوه لإيطاليا عام 1480م؛ حيث نجحت لأسباب كثيرة منها تحجيمه للبندقية عن طريق معاهدة 1479م، ولو كانت البندقية محاربة للفاتح لتعذَّر عليه في الأغلب الإنزال العسكري في إيطاليا كما رأيناه.
8. في النصف الثاني من عهد الفاتح كانت سمعة الفاتح قد طبَّقت أوروبَّا كلَّها، وكان اسمه مُفزِعًا للملوك والقادة، ولم يُحقِّق هذا إلَّا بعد عملٍ طويلٍ خلال النصف الأوَّل من عهده رحمه الله، فكان من الطبيعي أن نرى جيوشه تنتصر بالرعب في النصف الثاني من فترة حكمه بمعدلات أكبر من تلك التي كانت تُحقِّقها في النصف الأوَّل، عندما كان بعض الأوروبِّيِّين يستصغر شأن الفاتح لحداثة سِنِّه، ولقد كان الفاتح في النصف الثاني من عهده من أقوى الرموز العسكريَّة في أوروبا، ولقد لاحظ المؤرِّخ الروماني ليڤيو بيلات Liviu Pilat أنَّ الرعب في أوروبا من محمد الفاتح قد تضاعف في النصف الثاني من عهده، خاصَّةً بعد فتح نيجروبونتي، فقال: «بعد فتح نيجروبونتي عام 1470م تضاعف الرعب في أوروبا عن ذلك الذي أحدثه فتح القسطنطينيَّة، وذلك للخوف من القوَّة البحريَّة للسلطان محمد الثاني»[16]. فالمؤرخ الرُّوماني هنا يُلاحظ السبب في تضاعف الرعب من الجيش العثماني في النصف الثاني من عهد الفاتح رحمه الله، وهو تطوُّر القوَّات البحريَّة، ونموُّ الأسطول العثماني، ممَّا يعني أنَّ إمكاناته المتكاملة يُمكن أن تُؤثِّر سلبًا في قطاعاتٍ أوروبِّيَّةٍ لم تكن تقدر عليها القوَّات البرِّيَّة وحدها، خاصَّةً عند الحديث عن إيطاليا، أو الجزر الكثيرة في بحر إيجة، أو البحر المتوسِّط. يُؤكِّد هذه الملاحظة ما نقلته المؤرِّخة الأميركيَّة مونيك أوكونيل Monique O'Connell عن المؤرِّخ الإيطالي المعاصر للفاتح دومينيكو ماليبيرو Domenico Malipiero حين قال: «ألقت أخبار سقوط نيجروبونتي عام 1470م الجميع في رعبٍ عظيم، وصار الكلُّ يشكُّون في بقاء جمهوريَّة البندقيّة بعد الانتصارات التركيَّة المتتالية»[17]! هذه الروح الانهزاميَّة، والحالة النفسيَّة المتردِّية عند البنادقة والأوروبِّيِّين، كانت إحدى الأسباب المهمَّة لزيادة نسبة نصر الفاتح في النصف الثاني من عهده.
9. أخيرًا، يُضاف إلى ما سبق أنَّ تكرار العمليَّات العسكريَّة ضدَّ الأعداء المختلفين أدَّى إلى إنهاكهم، وإنهاك بلادهم، ولم يكن لهم النَّفَس الطويل الذي كان عند الفاتح وجيشه، فبدءوا في التراجع تحت أثر الضربات المتكرِّرة، وعادةً ما تفقد الشعوب حماستها لإكمال المسيرة في الحروب إذا لم ترَ نصرًا حاسمًا، خاصَّةً إذا لم تكن الأهداف والمهام واضحة في عيونها، وهذا ما حدث مع شعوب البندقيَّة، وألبانيا، وچنوة، وغيرها من الشعوب الأوروبِّيَّة، وهذا الإنهاك أدَّى إلى زيادة انتصارات الفاتح بشكلٍ ملموس.
هذه كانت بعض الأسباب -في رأيي- التي أدَّت إلى زيادة نسب النصر في عهد الفاتح الثاني عن مثيلاتها في النصف الأوَّل، وهذا في الواقع أسهم في تخليد ذكرى هذا القائد العظيم؛ حيث إنَّ التاريخ يحفظ قصص أولئك الذين أنهوا حياتهم منتصرين، أمَّا أولئك الذين يتعرَّضون للهزائم والكوارث في أخريات حياتهم فإنَّ المنتصرين عليهم هم الذين يكتبون تاريخهم، وهذا يخفي الكثير من الحقائق عن حياتهم.
***
خامسًا: أعداء الفاتح:
تعدَّدت الأعداء في حياة الفاتح رحمه الله، ومن المعارك يتبيَّن أنَّه حارب عشرين عدوًّا، ولا شَكَّ أنَّ قوَّة هؤلاء الأعداء تتفاوت، وقد قمت بتصنيف معارك الفاتح رحمه الله (170 معركة) بحسب العدو، وقمتُ بعمل عدَّة إحصائيَّاتٍ مستغلًّا هذا التصنيف الجديد، فخرجتُ بعدَّة نتائج أحسبها مهمَّةً للغاية لفهم طبيعة المرحلة، بل لفهم مراحل لاحقة في تاريخ الدولة العثمانيَّة، وهذه النتائج كانت على النحو التالي:
1. هذا العدد الكبير من الأعداء ناتجٌ عن تحوُّل الدولة العثمانيَّة من مجرَّد دولةٍ محدودةٍ بقطاعٍ جغرافيٍّ معيَّنٍ إلى إمبراطوريَّةٍ تشمل مساحات شاسعة من الأرض، وبالتالي تقاطعت مصالحها مع مصالح عدَّة دول محيطة، فكان العداء المستمر مع الجيران، لكن أحبُّ أن أُضيف هنا أنَّ فتح القسطنطينيَّة مبكِّرًا في أوَّل عهد الفاتح (بعد سنتين فقط من تولِّيه الحكم) لفت أنظار الأوروبِّيِّين إليه، وبالتالي تحرَّكت قوى كثيرة لحرب الفاتح ما كانت لتتحرَّك لولا هذا السقوط المدوِّي للعاصمة التليدة للإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. يقول المؤرِّخ الإنجليزي توماس هنري ديير Thomas Henry Dyer: «ملأ سقوط القسطنطينيَّة -مع أنَّه كان متوقَّعًا منذ فترة- أوروبَّا بالحزن والرعب، وارتعدت روما لتوقُّعها أن تكون الضحيَّة الجديدة التي سيلتهمها السلطان»[18]! أمَّا المؤرخ الإنجليزي روچر كراولي Roger Crowley فكان أكثر تفصيلًا في وصف الحالة النفسيَّة عند الأوروبِّيِّين عند سقوط القسطنطينيَّة، فقال: «وصف مؤرِّخٌ چورچيٌّ سقوط القسطنطينيَّة بقوله: (عندما أخذ الترك القسطنطينيَّة أظلمت الشمس)، وكتب إنيا سيلڤيو بيكولوميني Enea Silvio Piccolomini، وهو الذي سيُصبح لاحقًا البابا بيوس الثاني Pius II، إلى البابا المعاصر آنذاك وهو نيكولاس الخامس Nicholas V قائلًا: (أي أخبار ملعونة تلك التي نُقِلت لنا بخصوص القسطنطينيَّة؟). وقال الإمبراطور فريدريك الثالث Frederick III إمبراطور الدولة الرومانيَّة المقدَّسة عندما وصلته الأخبار في ألمانيا: (يدي ترتعش، وروحي مرتعبة)». ثم يُكمل روچر كراولي وصفه بقوله: «ثم انتشر الخبر كأسرع سفينة وأسرع خيل، وانتقل من إيطاليا إلى فرنسا، وإسبانيا، والبرتغال، والبلاد المنخفضة (هولندا وبلچيكا)، وصربيا، والمجر، وبولندا، وبعد ذلك. وفي لندن -والكلام لروچر كراولي- علَّق مؤرِّخٌ معاصرٌ بقوله: (في هذه السنة -أي 1453م- خسر الرجال النصارى مدينة القسطنطينيَّة، وكسبها أمير الأتراك محمد الثاني). ووصف كريستيان الأوَّلُ Christian I ملك الدنمارك والنرويج محمَّدًا الثاني بقوله: (هذا هو وحش آخر الزمان الذي خرج من البحر!). نشطت القنوات الدبلوماسيَّة بين بلاطات الحكم في أوروبا، تتناقل الأخبار والتحذيرات، وأفكار التخطيط لحروبٍ صليبيَّة». انتهى كلام روچر كراولي[19]!
هذا جانبٌ من الوصف الذي فصَّله المؤرِّخ الإنجليزي روچر كراولي، وهناك تفصيلات أكثر عنه لمن أراد الزيادة، ولقد لاحظنا في آخر كلامه أنَّ بلاطات الملك في أوروبا بدأت في التخطيط للحروب الصليبيَّة، وكان هذا أحيانًا بطابعٍ فردي، وأحيانًا أخرى بطابعٍ أممي؛ أي باجتماع أكثر من جيشٍ أوروبِّيٍّ في حربٍ واحدةٍ ضدَّ الدولة العثمانيَّة، وهذا كلُّه يُفسِّر العداوات الكثيرة التي عانت منها الدولة في عهد الفاتح رحمه الله، ومن المفهوم طبعًا أنَّ الفاتح كان «مضطرًّا» إلى فتح القسطنطينيَّة في هذا الوقت المبكِّر؛ لأنَّ الأراضي العثمانيَّة كانت قد أحاطت بالمدينة من شرقها وغربها، ولم يعد الأمر آمنًا في بقاء هذه المدينة الحصينة وسط الدولة العثمانيَّة، فكان لزامًا عليه الإسراع في فتحها، مهما ترتَّب على ذلك من نتائج.
2. بخلاف هؤلاء الأعداء المباشرين، وعددهم عشرون عدوًّا، الذين قادوا هذه العمليَّات العسكريَّة ضدَّ الدولة العثمانيَّة زمن الفاتح، كان هناك أعداءٌ غير مباشرين، بمعنى أنَّهم لم يدخلوا في حربٍ صريحةٍ مع الدولة العثمانيَّة، لكنَّهم كانوا يدعمون أعداء العثمانيِّين بشكلٍ قوي، سواءٌ عن طريق المال، أم السلاح، أم الدعم اللوجيستي، والسياسي، والمخابراتي، والإعلامي، وغير ذلك من أنواع الدعم المهمَّة، ونذكر من هؤلاء كازيمير الرابع ملك بولندا، الذي كان يدعم البغدان في حربها ضدَّ الفاتح، وفريدريك الثالث إمبراطور الدولة الرومانيَّة المقدَّسة (النمسا وألمانيا) الذي كان يدعم فرسان القديس يوحنا، ولويس الحادي عشر ملك فرنسا، وإدوارد الرابع ملك إنجلترا، واللذان كانا يدعمان فرسان القديس يوحنا كذلك، كما كانا يدعمان نابولي في حربها الأخيرة ضدَّ الدولة العثمانيَّة، وفرديناند الثاني ملك أراجون الإسبانية، الذي كان يدعم التمرد الألباني، وفيليب الطيب أمير بورجاندي الفرنسية، الذي كان يدعم حملات البابا الصليبية، وهناك أيضًا بعض الإمارات الإيطاليَّة كميلانو، التي كانت داعمة للبابا ونابولي في حربهما ضدَّ العثمانيِّين مع أنَّها لم تدخل بشكلٍ مباشرٍ في حرب الفاتح، ويُمكن أن يُضاف إلى هؤلاء الأعداء غير المباشرين دولة المماليك، التي كانت تدعم إمارة ذي القادر، وإن كانت لم تدخل في حربٍ مباشرةٍ مع الدولة العثمانيَّة أثناء حكم الفاتح رحمه الله.
هؤلاء الأعداء غير المباشرين كانوا يتربَّصون بالدولة العثمانيَّة بشكلٍ مؤثِّر، ولئن كان عهد الفاتح لم يشهد حروبًا معهم إلَّا أنَّ العهود التي تلت شهدت حروبًا ضارية، وهذا كان نتاج الاحتقان الكبير الذي أحدثته عمليَّات الفاتح العسكريَّة في أوروبا والأناضول.
3. يتبيَّن لنا أنَّ هناك تسعة أعداء من العشرين عدوًّا لم يتعرَّض الفاتح لهزيمةٍ منهم قط، بل انتصر عليهم في كلِّ معاركه معهم، وهؤلاء يُمثِّلون نسبة 45% من الأعداء، وكانت قوَّتهم متفاوتة، فمنهم الضعيف نسبيًّا، مثل ناكسوس، وإبيروس، وإمارة إسفنديار، وچورچيا، ومنهم متوسِّط القوَّة كچنوة، ومنهم القوي الخطر، وهم الدولة البيزنطيَّة، ومملكة البوسنة، والآق قوينلو الإيرانيَّة، ومملكة نابولي. كان النصر المتتالي للفاتح على هؤلاء الأعداء سببًا في تغيير جغرافيَّة أوروبَّا والأناضول بشكلٍ كبير، وبعض هذه التغييرات كانت دائمة؛ بمعنى أنَّها استمرَّت إلى آخر عهد الدولة العثمانيَّة تقريبًا؛ أي عدَّة قرونٍ بعد الحدث، فالنصر على البوسنة مثلًا جعلها جزءًا من الدولة العثمانيَّة إلى آخر القرن التاسع عشر الميلادي، والنصر على بيزنطة قضى على الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تمامًا، وضمَّت الدولة العثمانيَّة كلَّ أملاكها، والنصر على چنوة أنهى وجودها تمامًا في الشرق باستثناء جزيرة خيوس، التي كانت تدفع الجزية إلى الدولة العثمانيَّة، كما أدَّى انتصار الفاتح على إسفنديار، والآق قوينلو، إلى دخول مساحات كبيرة من الأناضول في حكم العثمانيِّين، وهذه ما زالت تحت الحكم التركي حتى زماننا الآن، ومع ذلك فقد ضاعت بعض نتائج هذا النصر بعد وفاة الفاتح، مثل ضياع ما ضمَّه الجيش العثماني من أراضٍ نابوليَّة في إيطاليا، أو تذبذب السيطرة على المدن الچورچيَّة التي ضمَّها الفاتح، لكن بشكلٍ عامٍّ فإنَّ الانتصار على هؤلاء الأعداء التسعة كان له أثرٌ بالغٌ في معظم الأحوال استمرَّ عدَّة قرونٍ من الزمان.
4. أكثر الأعداء حربًا للفاتح كانت جمهوريَّة البندقيَّة؛ إذ حاربت الفاتح في ثمان وثلاثين معركةً من أصل مائة وسبعين، وهذا يعني أنَّ نسبة معاركها وصلت إلى 22.4% من معارك الدولة العثمانيَّة في عهد الفاتح؛ أي ما يقرب من ربع معاركه، ومع أنَّ نسبة النصر على البندقيَّة كانت 60.5% فقط (23 نصرًا، و15 هزيمة) فإنَّه من الواضح أنَّ هزائم البنادقة كانت كارثيَّة، وخاصَّةً فتح نيجروبونتي، وغزوات الفريولي، وانتصارات شمال ألبانيا، وهذا الذي قاد في النهاية إلى المعاهدة المذلَّة عام 1479م، التي تنازلت فيها البندقيَّة عن مدنٍ وقلاعٍ كثيرة للعثمانيِّين في مقابل السلام، وهكذا، ومع أنَّ البنادقة حقَّقوا النصر على الفاتح فيما يقرب من 40% من المعارك، فإنَّ قُوَّتهم حُجِّمَت بشكلٍ كبير، وهذا سيترك ظلاله على علاقة البندقيَّة بالدولة العثمانيَّة في العقود التالية لحكم الفاتح.
5. تأتي في المرتبة الثانية -بعد البندقية- من حيث عدد المعارك مع الفاتح، دولة ألبانيا، حيث التقت مع الفاتح في إحدى وعشرين معركة؛ أي 12.4% من معارك الدولة العثمانيَّة في عهد الفاتح، وعلى النقيض من حديثنا عن نتائج الحرب مع البندقيَّة كانت نتائج الحرب مع ألبانيا؛ إذ كانت لهم الغلبة في الجانب الأكبر من الحروب، فلقد انتصر الفاتح ضدَّ الألبان في أربع معارك فقط، بينما هُزِمَ في سبع عشرة موقعة! بنسبة نصر 19% فقط. ولقد تعرَّضنا قبل ذلك للحديث حول الأسباب التي أدَّت إلى تفوُّق الألبان على العثمانيِّين في معظم المعارك، ولكن يهمُّني أن أُضيف هنا عامل القيادة الألبانيَّة؛ فإنَّ القيادة المتميِّزة للغاية لإسكندر بك كان لها أكبر الأثر في توالي نصرهم في الفاتح وجيوشه، ويتَّضح هذا بشكلٍ كبيرٍ عند فصل المعارك التي قادها إسكندر بك ضدَّ العثمانيِّين عن تلك التي حدثت بعد موته؛ فلقد خاض إسكندر بك تسع عشرة موقعةً من أصل إحدى وعشرين معركةً خاضتها دولته ضدَّ الفاتح، ونجح إسكندر بك في تحقيق النصر في سبع عشرة موقعة من هذه المواقع بينما هُزِم مرتين فقط، وهكذا تكون نسبة نصره على جيوش الفاتح تصل إلى 89.5%، وهي نسبةٌ مرتفعةٌ للغاية، ولم يخض الجيش الألباني بعد وفاة إسكندر بك عام 1468م مع الدولة العثمانيَّة إلَّا موقعتين فقط، وكانت الغلبة فيهما للفاتح، بل ضُمَّت ألبانيا بشكلٍ نهائيٍّ وكاملٍ للدولة العثمانيَّة عام 1479م عقب معاهدة البندقيَّة. يرفع من أهميَّة إسكندر بك ملاحظة معدَّل معاركه مع الفاتح بالقياس إلى معدَّل المعارك بعد وفاته؛ فلقد خاض الجيش الألباني بقيادة إسكندر بك تسع عشرة معركةً ضدَّ الدولة العثمانيَّة في عهد الفاتح على مدار خمس عشرة سنة (من سنة 1452م إلى سنة 1467م)؛ أي بمعدل 1.3 معركة كلَّ سنة، بينما خاض الجيش نفسه بعد وفاة إسكندر بك معركتين فقط ضدَّ الدولة العثمانيَّة على مدار إحدى عشرة سنة (من سنة 1468م إلى سنة 1478م)؛ أي بمعدَّل 0.2 موقعة كلَّ سنة، أو بمعدَّل معركة واحدة كلَّ خمس سنوات ونصف، وهذا فارقٌ معتبرٌ للغاية يُوضِّح حالة الانكسار التي حدثت لجيش ألبانيا بعد وفاة إسكندر بك، وهذا يجعله من أقوى الرموز التي حاربت العثمانيِّين، وأرهقت الفاتح بشكلٍ لافتٍ لكلِّ الأنظار، ويُرْجع المؤرِّخ الاسكتلندي صامويل چاكوب Samuel Jacob تفوُّق إسكندر بك إلى معرفته الدقيقة بألبانيا من جانب، ولكن الأهم والأساسي هو ارتباط الألبان عاطفيًّا ومعنويًّا بشخص هذا القائد[20]، وهي ملاحظةٌ جديرةٌ بالاهتمام؛ لأنَّ حماسة الألبان في مقاومة العثمانيِّين انخفضت كثيرًا بعد موت إسكندر بك عام 1468م، أمَّا المؤرخ الإنجليزي توم وينيفريث Tom Winnifrith فيُبدي تعجُّبه من انتصارات إسكندر بك المتكرِّرة، ويتساءل هل كان بسبب الشعور القومي؟ أم بسبب الحماسة الدينيَّة؟ أم أنَّ هذا كان بسبب الصراع الطبقي؟ ولكنَّه يخلص في النهاية إلى أنَّه مهما كان السبب فإنَّ المقاومة الألبانية انهارت تمامًا بعد موت هذا الزعيم[21].
6. يتبيَّن معاناة الفاتح رحمه الله من زعيمين آخرين حقَّقا النصر عليه في مواقع متعدِّدة، وكانت لهما سطوةٌ واضحةٌ على الجيوش العثمانيَّة؛ أمَّا الزعيم الأوَّل فهو استيفين الثالث أمير البغدان، الذي التقت جيوشه مع جيوش الفاتح أربع عشرة مرَّة كان النصر فيها سبع مرَّات لصالحه، بينما هزمه الفاتح أيضًا سبع مرَّات، وهذا، وإن كان يبدو تعادلًا في القوة، إلا أن الواقع يشير إلى تفوق البغدان في المحصِّلة النهائية، لأنَّ البغدان ظلَّت إلى آخر عهد الفاتح خارجة عن السيطرة العثمانيَّة على الرغم من محاولات الفاتح المتكرِّرة لإعادة ضمِّها بعد تمرُّدها عليه. الذي يلفت النظر في هذه العمليَّات العسكريَّة أنَّ هناك تباينًا كبيرًا في القوى بين الدولة العثمانيَّة العملاقة وإمارة البغدان الصغيرة، ممَّا يجعل نصرها على العثمانيِّين أمرًا مستغربًا، وأعتقد أنَّ السبب في ذلك يرجع في الأساس إلى انشغال الفاتح بقضايا أكثر أهميَّة، مثل حروبه مع البندقيَّة، أو الآق قوينلو، أو المجر، وإلَّا فالسيطرة على البغدان ليست بالأمر الصعب الذي يعجز عنه الفاتح إذا تفرَّغ له، وعمومًا فإنَّ الضغط العثماني على البغدان كان قويًّا، وهذا أدَّى إلى إضعاف البغدان بشكلٍ كبير، ولقد سعى استيفين الثالث بعد وفاة الفاتح إلى علاقةٍ سلميَّةٍ مع الدولة العثمانيَّة، وتحقَّق له ذلك في عهد بايزيد الثاني ابن الفاتح؛ حيث عاد إلى دفع الجزية إلى الدولة العثمانيَّة، واستقرَّت أموره إلى حدٍّ كبير، ويبدو أنَّ صموده أمام الفاتح كلَّ هذه الفترة كان بسبب دعم ملكي المجر وبولندا له ممَّا منحه قدراتٍ أكبر بكثيرٍ من قدرات بلده.
أمَّا الزعيم الثاني الذي أزعج الفاتح بشكلٍ كبيرٍ فهو أمير الإفلاق دراكولا الثالث؛ فقد التقت جيوشه مع جيوش الفاتح عشر مرَّات تحقَّق له النصر في ستِّ مواقع بينما هُزِمَ في أربعة، ممَّا يُعطيه نسبة تفوُّق على الفاتح تُقدَّر بـ60%، وهذا، وإن كان مؤسفًا في شكله العام، إلَّا أنَّ التحليل المنطقي يُؤكِّد أنَّ انتصارات دراكولا الثالث لم تكن مؤثِّرة بالشكل الكافي في الدولة العثمانيَّة، مع أنَّه تسبَّب في موت أعدادٍ كبيرةٍ من الجيش العثماني، بل من المدنيِّين التابعين للدولة العثمانيَّة في رومانيا وبلغاريا. الذي يدعونا إلى القول بأنَّ انتصاراته لم تكن مؤثِّرة سلبًا في الدولة العثمانيَّة هو استقرار الأوضاع في الإفلاق لصالح العثمانيِّين، كما أنَّ خاتمة المعارك بين دراكولا وجيوش الفاتح انتهت بقتل الأمير الإفلاقي عام 1476م، وعودة الإفلاق إلى القبضة العثمانيَّة، ممَّا يُؤكِّد أنَّ انتصارات العثمانيِّين على دراكولا -وإن كانت قليلة- إلَّا أنَّها كانت ذات قيمة وأهميَّة، بعكس انتصارات دراكولا التي لم تُحقِّق إنجازات تُذكر.
يتبيَّن من تحليلنا في هذه النقطة، والنقطة التي سبقتها، أنَّ الفاتح قد عانى من هؤلاء القادة الثلاثة بشكلٍ كبير؛ أعني إسكندر بك، واستيفين الثالث، ودراكولا الثالث، وهذا أعطاهم شهرةً كبيرةً في أوروبا، حيث عُدُّوا رموزًا قوميَّة ودينيَّة استطاعت أن تحدَّ من نشاط السلطان المرعب الفاتح، وهذا ما دعا المؤرِّخ الروماني إيوان بوب Ioan Pop إلى جمع الثلاثة معًا في جملةٍ واحدةٍ حين تحدَّث عن أولئك الذين حقَّقوا نجاحات ذات قيمةٍ ضدَّ العثمانيِّين[22].
7. في النقاط السابقة تناولنا ثلاث شخصيَّات أزعجت الفاتح، وحقَّقت النصر عليه في عدَّة معارك، لكن هناك شخصيَّة فعلت ما هو أكثر من ذلك! إنَّه القائد الذي لم تنهزم جيوشه قط من الفاتح، ولم يُحقِّق الفاتح أيَّ نصرٍ عليه! وأعني به بيير دي أوبسون السيِّد الأكبر لفرسان القديس يوحنا!
لقد التقت جيوش الفاتح مع فرسان القديس يوحنا ثلاث مرَّات كان النصر فيها حليف الفرسان. كانت المرَّة الأولى عابرة في مناوشات يسيرة عام 1454م، وكانت لصالح الفرسان، ولم يكن بيير دي أوبسون قد تولَّى قيادة رودس بعد، ثم اصطدم العثمانيُّون مع فرسان القديس يوحنا مرَّتين في عامي 1479م، و1480م، وتمَّ فيهما النصر الساحق لهم على العثمانيِّين.
ترجع هزيمة جيوش الفاتح من فرسان القديس يوحنا لأسباب كثيرة تناولناها عند الحديث عن حصار رودس الأخير عام 1480م، ومع أنَّ الفاتح لم يُقابل بيير دي أوبسون بنفسه قط فإنَّه كان حزينًا للغاية من تكرار عدم نجاحه في الانتصار على هذا الجيش، خاصَّةً أنَّه خسر عددًا كبيرًا من جنوده في الحصار الأخير لرودس، الذي استمرَّ أكثر من ثلاثة أشهر. لقد كانت نتيجة هذه الهزائم أن بقيت رودس في حوزة فرسان القديس يوحنا أكثر من نصف قرن بعد وفاة الفاتح، ولم تنتقل إلى تبعيَّة الدولة العثمانيَّة إلَّا في عام 1522م في عهد السلطان سليمان القانوني.
8. أيضًا نُلاحظ أنَّ هناك بعض الدول التي توازنت في القوَّة مع الفاتح رحمه الله، فلم يكن لأحدهما غَلَبة واضحة على الآخر؛ إنَّما كانت الأمور شبه متعادلة، وهذا التوازن تحقَّق مع المجر، ودولة البابا، فالمجر التقت مع الدولة العثمانيَّة في إحدى عشرة معركة انتصر الجيش العثماني في ست منها، وهُزِمَ في خمس، بنسبة نصر 54.5%، وحدث الشيء نفسه تقريبًا مع جيوش البابا؛ حيث انتصر الفاتح في خمس معارك من أصل عشر، وهُزِمَ في خمس، بنسبة نصر 50%، وهي نسبة التوازن التي نعنيها، وستبقى هذه النسبة على هذه الصورة مدَّةً طويلةً بعد وفاة الفاتح، ولن تتغيَّر لصالح الدولة العثمانيَّة إلَّا في عهد سليمان القانوني.
***
سادسًا: المعارك البحرية في عهد الفاتح:
يُمكن استخلاص بعض المعلومات المهمَّة الخاصَّة بالعمليَّات العسكريَّة البحريَّة للأسطول العثماني، وما سأذكره هنا هي ملاحظات مبدئيَّة، ولا شَكَّ أنَّها تحتاح إلى دراسة أعمق ليُمكن تحقيق أكبر فائدة من هذه الإحصائيَّات، ولقد قمتُ بجمع المعارك التي اشترك فيها الأسطول العثماني في عهد، وذلك لتسهيل عمليَّات الإحصائيَّات، وقد خرجتُ منها ببعض النتائج، كان منها:
1. اشترك الأسطول العثماني في ثمانٍ وخمسين معركةً من أصل مائة وسبعين معركةً حاربتها الدولة في زمن السلطان الفاتح، وهذا يُعطي نسبة مشاركة 34.1%؛ أي حوالي ثلث معارك القوَّات العسكريَّة العثمانيَّة، وهذه نسبة كبيرة للغاية، وإذا قارنَّاها بالبحريَّة العثمانيَّة أيَّام بايزيد الأول -أي قبل الفاتح بنصف قرن- نجد أنَّ مشاركات الأسطول العثماني في زمن السلطان بايزيد الأول كانت في معركتين فقط من أصل ستٍّ وعشرين معركة بنسبة 7.7%، ولم يحدث نموٌّ يُذْكَر في الأسطول في زمن السلطانين محمد چلبي، ومراد الثاني، ثم جاء محمد الفاتح ليُحْدِث هذه الطفرة الملحوظة في الأسطول، وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذا الإحصاء (58 معركة)، يشمل كلَّ المعارك التي شارك فيها الأسطول العثماني حتى لو كانت مشاركته جزئيَّة، بمعنى أنَّ الحرب كانت معتمدة على القوَّات البرِّيَّة والبحريَّة معًا، كما يشمل العمليَّات العسكريَّة التي قام بها الأسطول منفردًا مثل فتح جزر كيفالونيا، أو إمبروس، أو غيرهما.
2. يلفت النظر جدًّا أنَّ نسبة النصر في المعارك التي شارك فيها الأسطول كانت 69%؛ حيث حقَّق النصر في أربعين معركة، بينما هُزِم في ثماني عشرة، وهذه أعلى من نسبة النصر للجيش العثماني في كل معاركه في عهد الفاتح، وهذا يُبرز التناغم بين القوَّات البحريَّة والبرِّيَّة، وحسن إدارة العمليَّات العسكريَّة، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ هذه الإحصائيَّة ليست محدودة بالمعارك التي تمَّت في داخل البحر؛ إنَّما هي تشمل الحروب في الموانئ، وشبه الجزر، وهذه المعارك الأخيرة يُمكن أن تكون معتمدة في الأساس على القوَّات البرِّيَّة، وتكون المشاركة البحريَّة فيها ضعيفة، وذلك مثل فتح أوترانتو؛ حيث كان جهد الأسطول العثماني مُنْصَبًّا على جودة الإنزال العسكري، ومحاصرة الميناء لمنع وصول سفن نابوليَّة مساعدة، أمَّا الحصار الحقيقي للمدينة، والقصف المستمر، والقتال المباشر، كان كلُّه من أعمال القوَّات البرِّيَّة التي نقلها الأسطول إلى إيطاليا. هذا ليس الغرض منه التقليل من شأن القوَّات البحريَّة العثمانيَّة في زمن الفاتح، ولكن للفت النظر أنَّه لا يُمكن المقارنة بين هذه العمليَّات، والعمليَّات الأخرى التي تقوم بها الأساطيل في داخل البحار، حيث تكون معتمدة اعتمادًا كليًّا على إمكاناتها العسكريَّة الخاصَّة بها.
3. يُبرز أثر الفاتح في نموِّ الأسطول القيام بإحصائيَّة لنسبة النصر في النصف الأوَّل من عهد الفاتح بالمقارنة بها مع النصف الثاني من عهده؛ لأنَّه قام بتطوير الأسطول الذي تَسَلَّمه من أبيه مراد الثاني بشكلٍ ملحوظ، وهذا تطلَّب وقتًا وجهدًا، وقد اهتمَّ الفاتح بتطوير الأسطول بشكلٍ أكبر عندما قرَّر فتح جزيرة نيجروبونتي الاستراتيجيَّة، والتابعة للبندقيَّة، وذلك عام 1470م، ووضح أنَّ الأسطول العثماني قفز بعد هذا الفتح قفزات واسعة، ولذلك فقد قمتُ بعمل دراسة مقارنة بين عمليَّات الأسطول العثماني زمنَ الفاتح قبل فتح نيجروبونتي (أي من 1451م إلى 1469م)، وبعد فتح نيجروبونتي (أي من 1470م إلى 1481م) فوجدتُ أنَّ النتائج ذات معنًى وقيمة. لقد خاض الأسطول العثماني في الفترة الأولى من عهد الفاتح إحدى وثلاثين معركةً بحريَّة، تحقَّق له النصر في ثماني عشرة منها بينما هُزِم في ثلاث عشرة معركة، وهذا يُعطيه نسبة نصرٍ تُقدَّر بـ58.1%، بينما في الفترة الثانية (أي منذ عام 1470م) خاض الأسطول سبعًا وعشرين معركة، حقَّق النصر في اثنتين وعشرين منها، بينما هُزِم في خمس فقط، ممَّا يُعطي نسبة نصرٍ تُقدَّر بـ81.5%، والفارق بين النسبتين معتبرٌ جدًّا، ويبرز التطوُّر الرائع في البحريَّة العثمانيَّة في هذه الفترة.
4. يهمُّني هنا أن أنقل شهادة أحد كبار رجال الأسطول البندقي، وهو أكبر أسطول في العالم في ذلك الوقت، وهو الأدميرال چيرولامو لونجو Girolamo Longo، فقد قال في رسالةٍ أرسلها لأخويه في البندقيَّة واصفًا لهما الأسطول العثماني قبيل فتح نيجروبونتي: «كنت أعتقد في البداية أنَّ الأسطول التركي يشمل ثلاثمائة سفينة، لكنَّني الآن أحصيت أربعمائة سفينة. البحر بكامله يبدو كغابة من الصنوبر. لا تتعجَّبوا من أنَّ التُّرك صاروا قادرين على تسليح مثل هذا الأسطول، لأنَّه، وعلى مدار ست عشرة سنة (أي منذ عام 1453م، عام فتح القسطنطينية)، والسلطان يبني كلَّ سنةٍ عدَّة سفنٍ جديدة. يُقاتل الأتراك -والكلام لچيرولامو- بشكلٍ جيِّدٍ جدًّا، وبضرباتٍ سريعة. السفن التركيَّة ليست بجودة سفننا، ولكنَّها عند الإبحار، وفي الأمور الأخرى، تُقاتل بشكلٍ جيِّد. يزيد طول الأسطول التركي على ستَّة أميال. نحن الآن نُريد الأعمال لا الأقوال. نُريد دعمًا لا يقل عن مائة سفينة، ولست متأكدًا أنَّ هذا العدد يكفي، وفي حال عدم إرسال مثل هذه القوَّة، مع الرجال، والمؤن، والمال، فإنَّ نيجروبونتي في خطر، وكذلك كل أملاكنا في الشرق»[23]!
هذه الاستغاثة التي أرسلها الأدميرال البندقي تكشف لنا مدى التطوُّر الرائع الذي حدث في الأسطول التركي في عهد الفاتح، وخاصَّةً أنَّ هذا الانبهار يأتي من رجل عسكري قدير متخصِّص، وهو على رأس أقوى أساطيل العالم آنذاك، كما أنَّه يشرح بوضوح دور الفاتح في بناء السفن كلَّ عام حتى وصل إلى هذا الحجم، ولهذا فإنَّني أتفق مع المؤرخين الذين يَعُدُّون محمدًا الفاتح المؤسِّس الحقيقي للأسطول العثماني[24].
5. بتحليل الأعداء الذين حاربهم الفاتح في معارك بحريَّة نجد أنَّهم عشرة، ولكن عند التحليل الدقيق نجد أنَّ ستَّةً منهم لم تكن صداماتهم بالشيء المزعج للدولة العثمانيَّة، إمَّا لضعفهم الشديد من الناحية البحريَّة، أو لأنَّ اللقاء معهم كان عابرًا، وهؤلاء الأعداء الستَّة هم البغدان، وبيزنطة، وناكسوس، وچورچيا، وإمبروس، ونابولي، مع العلم أنَّ الدولة الأخيرة، أعني نابولي، كانت قويَّةً من الناحية البحريَّة لكن الصدام معها كان محدودًا؛ إذ انتصر عليها الفاتح في موقعة أوترانتو، لكنَّه لم يعش طويلًا بعد المعركة لنرى نتائج تفاقم الصراع؛ إذ مات بعد فتح أوترانتو بشهور.
يبقى هناك أربعة أعداء أقوياء من الناحية البحريَّة قابلتهم الدولة العثمانيَّة في عدَّة معارك، وهم البندقيَّة، وچنوة، ودولة البابا، وفرسان القديس يوحنا.
أمَّا البندقيَّة فقد التقى معها الفاتح في ثماني عشرة موقعةً بحريَّة، وهو أعلى معدَّل من الصدامات البحريَّة حدث للدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح، وقد تحقَّق النصر للفاتح في ثمانية لقاءات، وهُزِم في عشرة منها، وهذا أعطى نسبة نصرٍ تُقدَّر بـ44.4%، وهذه نسبةٌ جيِّدةٌ جدًّا؛ لأنَّ الأسطول البندقي في القرن الخامس عشر الميلادي هو أقوى أساطيل العالم بلا جدال، وكون الفاتح يتفوَّق عليه في البحر، فيما يقرب من نصف المعارك، فهذه علامة جودةٍ رائعة، وهذا فاجأ البنادقة بشكلٍ كبير، خاصَّةً أنَّ هذه المعارك البحريَّة لم تكن محدودة بسنةٍ معيَّنة حتى نفترض أنَّ هناك ظروفًا ما أدَّت إلى هذه النتائج، بل كانت هذه المعارك موزَّعة على ست عشرة سنة كاملة، فإذا أضفنا إلى ذلك التفوُّق البريَّ الكبير لجيوش الدولة العثمانيَّة على جيوش البندقيَّة؛ حيث التقى الفاتح معهم في عشرين موقعةً بريَّة، انتصر في خمس عشرة منها وهُزِم في خمس فقط، ممَّا يُعطيه نسبة نصرٍ تُساوي 75% في المعارك البرِّيَّة، وبمجموعٍ كليٍّ لنسبة النصر يُساوي 60.5% كما شرحنا قبل ذلك. هذه النتائج، وإن كانت لا تبدو مفجعة بالنسبة إلى البندقيَّة إلَّا أنَّها مفاجئة، وأحسب أنَّ المفاجأة في التعادل في القتال البحري كانت أشدَّ عليهم من المفاجأة من الهزائم البرِّيَّة؛ لأنَّ البندقيَّة دولة بحريَّة Maritime State تعتمد اعتمادًا شبه كامل على قوَّاتها البحريَّة في بسط سيطرتها على عددٍ كبيرٍ من موانئ العالم، ولا تهتمُّ كثيرًا بالتوغُّل في الأراضي البرِّيَّة التي توجد خلف الموانئ، وهي ما تُعرف بالأراضي الخلفيَّة، وبالإنجليزية Hinter Lands، ولهذا لم يكن لها الاستعداد البرِّيُّ الذي يجعلها تقف أمام الجيوش العثمانيَّة المتمرِّسة، لكن الذي أفجعها حقًّا هو تفوُّق الأسطول العثماني للدرجة التي تجعله متعادلًا معهم، خاصَّةً أنَّ البحريَّة العثمانيَّة كانت -كما لاحظنا سابقًا في كلام چيرولامو لونجو- في ازديادٍ مستمر، وإذا كانوا اليوم متعادلين، فإنَّهم سيتفوَّقون حتمًا في المستقبل، وهذا ما دفعهم إلى الإسراع بعقد معاهدة 1479م، على الرغم من فداحة الشروط التي أُمليت عليهم.
أمَّا بالنسبة إلى چنوة فإنَّها كانت جمهوريَّة بحريَّة كذلك، وكانت -كالبندقية- تعتمد على أساطيلها القويَّة، ولكنَّ القَدَر السعيد للدولة العثمانيَّة، وكذلك للسلطان الفاتح، أنَّ نموَّ البحريَّة العثمانيَّة كان متزامنًا مع انخفاض المستوى جدًّا عند الچنويِّين، إلى الدرجة التي كانت مدينة چنوة الأم في إيطاليا تُعاني من الاحتلال الفرنسي، ثم من احتلال ميلانو، وهذا جعلها غير قادرة على مساعدة مستعمراتها في الشرق عندما تعرَّضت للضغط العثماني[25]، ولهذا فإنَّ الفاتح رحمه الله التقى مع أساطيل چنوة في أربع عشرة موقعة، تحقَّق له فيها النصر جميعًا، ومع ذلك فلا بُدَّ من القول إنَّ ضعف الجمهوريَّة لن يُؤدِّي إلى مثل هذه الهزائم الكثيرة إلَّا إذا كان الأسطول العثماني متميِّزًا جدًّا؛ لأنَّنا لا نتكلَّم عن جمهوريَّةٍ بحريَّةٍ عاديَّة؛ إنَّما نتكلم عن أسطولٍ كان يُنافس الأسطول البندقي طويلًا، وعن دولةٍ ذات تاريخ بحريٍّ طويل، بل كانت تفرض سيطرتها على موانئ البحر الأسود، وبحر إيجة، في وجود قوًى كبيرة، كالدولة البيزنطيَّة، ومملكة طرابزون، ومملكة چورچيا، وخانات القرم، بل مملكة بولندا وليتوانيا، وهذا كلُّه يُؤكِّد أنَّه على الرغم من انخفاض مستوى الأسطول الچنوي إلَّا أنَّه لم يكن ضعيفًا بالدرجة التي تجعله ينهزم في كلِّ معاركه، إلَّا إذا كان الذي يُواجهه قويًّا ومحترفًا، وهذا ما وجدته چنوة في صدامها مع أسطول الفاتح رحمه الله.
الكلام نفسه يُقال على دولة البابا؛ فهذه دولةٌ مستقلَّةٌ في وسط إيطاليا يحكمها البابا، وتشمل روما وعدَّة مدنٍ كبرى حولها، ولم تكن هذه الدولة بالقوَّة الكافية في الفترة التي بنى فيها الفاتح أسطوله، ولذلك لم تكن عائقًا كبيرًا أمامه، ولكنَّها بحكم أنَّها إيطاليَّة، وبحكم ما للبابا من سطوةٍ على الجمهوريَّات والممالك الإيطاليَّة والأوروبِّيَّة، كانت قادرةً على تجهيز بعض الأساطيل القويَّة التي خاضت عشر حروب مع الفاتح، وقد تحقَّق للعثمانيِّين النصر في خمس مواقع، بينما هُزِموا في خمسٍ، ممَّا يُعطي نسبة نصرٍ تُساوي 50%، وهذا التعادل يُعَدُّ نصرًا بالنسبة إلى الأسطول العثماني الذي يُواجه أساطيل دولةٍ يحكمها البابا بما له من أثرٍ سياسيٍّ ودينيٍّ في معظم الكيانات الأوروبِّيَّة، خاصَّةً في هذا التوقيت من القرن الخامس عشر، الذي كان يشهد سطوة باباويَّة واضحة، وهو الوضع الذي تغيَّر في القرون اللاحقة.
آخر الأساطيل البحريَّة التي واجهها الفاتح كان أسطول فرسان القديس يوحنا، والواقع أنَّ الانتصارات التي حقَّقها الفرسان على العثمانيِّين لم تكن بسبب قوَّة أسطولهم، فإنَّه على الأغلب لم يُشارك في المعارك، بل أدخله الفرسان إلى الموانئ، ولم يُواجه العثمانيِّين قط؛ إنَّما يرجع نصر الفرسان إلى قوَّة تحصيناتهم، وقدرتهم على المطاولة في الحصار، وتمكُّنهم في الوسائل الدفاعيَّة عن مدينة رودس، ولهذا فإنَّ انتصارهم المتتالي على العثمانيِّين لا يُعَدُّ انتقاصًا من الأسطول العثماني؛ فإنَّ الحرب كانت برِّيَّة في معظم الأحوال.
هذه التحليلات التي ذكرناها تشهد بالعظمة لهذا الأسطول الجديد، وتشهد كذلك بالدور العظيم الذي قام به السلطان المتمكِّن محمد الفاتح. يقول المؤرِّخ الأسكتلندي چورچ فينلاي George Finlay: «لم يكن الأسطول العثماني مرتَّبًا بشكلٍ نظاميٍّ قبل محمد الثاني، الذي كوَّن قوَّةً بحريَّةً جديرةً بالاعتبار لمهاجمة العاصمة البيزنطيَّة القسطنطينيَّة، أمَّا العمليَّة العسكريَّة البحريَّة التي رسَّخت السيادة البحريَّة العثمانيَّة في الشرق فكانت فتح نيجروبونتي على الرغم من كلِّ جهود البندقيَّة لإنقاذها»[26].
إنَّ مسألة وقوف الأسطول العثماني في مواجهة أسطول البندقيَّة الرهيب، صاحب التاريخ المجيد، والواقع المتطوِّر، والإمكانات الباهرة، والخبرة العميقة، كان مسألة من المسائل التي حيَّرت المؤرِّخين على مرِّ العصور! وما زال العلماء إلى زماننا الآن يبحثون عن الأسباب التي أدَّت إلى هذه النتائج العجيبة. بَحَثَت الدكتورة سوزان روز Susan Rose، والأستاذة بجامعة روهامبتون Roehampton بلندن، والمتخصِّصة في العلوم العسكريَّة البحريَّة في العصور الوسطى، هذه المسألة، وفصَّلت في موسوعتها القيمة عن «حروب البحار في العصور الوسطى» «Medieval Naval Warfare» في الأسباب التي أدَّت إلى تفوُّق الأسطول العثماني على الأسطول البندقي، ووصلت إلى عدَّة تبريرات؛ كان منها استخدام المدافع، وقدرة الجيش العثماني على تثبيت المدافع ليس فقط على السفن، ولكن على الشواطئ والموانئ، وكان في رأيها أنَّ هذا هو أهمُّ أسباب التفوُّق، فعلى الرغم من تزوُّد الأسطول البندقي بالمدافع إلَّا أنَّ العثمانيِّين كانوا متفوِّقين في هذا المجال بشكلٍ ملحوظ، ومن الأسباب التي ذكرتها كذلك سيطرة العثمانيِّين على الأراضي الداخليَّة خلف الموانئ (Hinter Land)، ممَّا يُتيح كذلك توصيل المؤن والسلاح إلى السفن العثمانيَّة، ولئن كان للبندقيَّة بعض الموانئ في اليونان وألبانيا إلَّا أنَّها أقلَّ بكثيرٍ من تلك التي تمتلكها الدولة العثمانيَّة، ولذلك كانت قدرة السفن العثمانيَّة على التزوُّد باحتياجاتها أكبر من قدرة الأسطول البندقي على فعل ذلك، وهذا يُفسِّر أيضًا سيادة الأسطول العثماني على الأسطول الچنوي الذي كان لا يملك أيَّ أراضٍ داخليَّةٍ في هذه المناطق، كما أضافت الدكتورة سوزان روز سببًا سياسيًّا اقتصاديًّا في هذا المضمار، وهو تردُّد مجلس الشيوخ البندقي في حرب الدولة العثمانيَّة حربًا شاملةً بسبب احتياجه للتعامل التجاري معها، فجمهوريَّة البندقيَّة قائمة على التجارة والمال، وسوق الدولة العثمانيَّة سوق كبير للغاية، بالإضافة إلى أنَّ الدولة العثمانيَّة واسطة بين الشرق والغرب، ولهذا فلها القدرة على منع تجارة آسيا من الوصول إلى البندقية، بالإضافة إلى أنَّ الحرب معها قد تؤدِّي إلى توتُّر في العلاقة مع المسلمين بشكلٍ عامٍّ، وهم يُمثِّلون قطاعًا مهمًّا من قطاعات التجارة مع البندقية. كلُّ هذا أدَّى إلى تردُّد البنادقة في حربهم مع الدولة العثمانيَّة، وهذا التردُّد أسهم في علوِّ الأسطول العثماني على نظيره البندقي[27].
أمَّا المؤلِّف الأميركي، والمتخصِّص في تاريخ العصور الوسطى، هانت چانين Hunt Janin فيُعزي هذا التفوُّق إلى عظمة الفاتح، الذي لم يكتفِ بفتح القسطنطينيَّة إنَّما أضاف لها معظم الأراضي في البلقان والأناضول، لتُصبح هذه المنطقة هي قلب الإمبراطوريَّة العثمانيَّة للسنوات الأربعمائة القادمة، وقام بأعمالٍ جليلةٍ كثيرة للحفاظ على هذا المستقبل، كان منها بناء أسطولٍ جديد، ولفت المؤلِّف الأميركي النظر إلى أنَّ تصميمات السفن العثمانيَّة كانت على النسق الإيطالي، أمَّا البحَّارة فكانوا من اليونانيِّين[28]، وهذه اللفتة من المؤرِّخ الأميركي مهمَّة، وتثبت قدرة الفاتح رحمه الله على الاستفادة من الطاقات المختلفة الموجودة في إمبراطوريَّته، أو في العالم آنذاك، وتثبت كذلك انفتاحه على الحضارات الأخرى، واستفادته من العلماء والتقنيِّين بصرف النظر عن عقيدتهم أو قوميَّتهم.
أمَّا الأدميرال البحري الإنجليزي سيبريان بريدچ Cyprian Bridge فيُرْجِع في كتابه عن القوى البحريَّة سرَّ التفوُّق العثماني إلى بناء الفاتح لترسانة عسكريَّة بحريَّة عظيمة في القسطنطينيَّة، كان لها الفضل في بناء أسطولٍ قادرٍ على طرد البنادقة من المياه اليونانيَّة[29]، وليس هذا فقط، بل ذكرت المؤرِّخة اليونانية چيلينا هارلافتيس Gelina Harlaftis أنَّ الفاتح لم يكتفِ بهذه الترسانة الجديدة في القسطنطينيَّة؛ إنَّما زاد من طاقة الترسانة القديمة في جاليبولي Gallipoli، ممَّا جعلها قادرة على تصنيع أسطول يصطدم في صراعٍ شرسٍ مع البندقيَّة عملاق البحار في هذه الفترة[30].
هكذا شَغَل تفوُّق الأسطول العثماني على الأساطيل البندقيَّة والچنويَّة أذهان المؤرِّخين والعسكريِّين، وإن كان الكلُّ يجمع على الدور الكبير الذي قام به السلطان الفاتح في هذا المجال، ممَّا يُضيف له هذا الإنجاز إلى جوار الإنجازات الضخمة التي قدَّمها لأمَّته في فترة حكمه.
***
سابعًا: المحصلة النهائية للصراع مع الأعداء:
آخر ما سأذكره من نتائج بعد النظر إلى معارك الفاتح ما يتعلَّق بنهايات الصدام مع هؤلاء الأعداء في زمن الفاتح، أعني بَعْد النظر إلى كلِّ المعارك لكلِّ عدوٍّ على حدة، كيف انتهى الصراع؟ وهل كانت الغلبة النهائيَّة في زمن الفاتح له، أم كانت للطرف الآخر؟ وهذا بصرف النظر عن مستقبل الصراع بعد موت الفاتح، وما حدث فيه من تطوُّرات مختلفة.
بصيغةٍ أخرى، مَنْ هم الأعداء الذين شَفَى اللهُ صدر الفاتح منهم قبل موته، فرأى جيوشه قاهرةً غالبةً لهم، ومَنْ هم الأعداء الذين مات الفاتح وهم متفوِّقون عليه؟
هناك أعداءٌ حقَّق الفاتح عليهم نصرًا كاملًا، ونتج عن النصر ضمٌّ كاملٌ لأراضي هؤلاء الأعداء بشكلٍ نهائيٍّ للدولة العثمانيَّة، بل ما زالت تلك الأراضي حتى زماننا الآن في أملاك الدولة التركيَّة، وهؤلاء الأعداء هم قرمان، وإسفنديار، وكذلك الآق قوينلو إلى حدٍّ ما. الذي يجمع هؤلاء الأعداء أنَّهم جميعًا مسلمون، بل إنَّ الأراضي التي ضمَّها الفاتح إلى الدولة العثمانيَّة من هؤلاء الأعداء كان يسكنها الأتراك بشكلٍ شبه كامل، وهذا الذي يُفسِّر ديمومة بقاء هذه الأراضي دون اضطراب في يد العثمانيِّين، خاصَّةً أنَّ شهرة الفاتح كقائدٍ إسلاميٍّ متميِّزٍ جعلت خروج هذه الإمارات من حكم العثمانيِّين أمرًا غير وارد. هذا الأمر كان واضحًا جدًّا مع قرمان وإسفنديار، اللذين يُمثِّلان الآن جزءًا لا يتجزَّأ من تركيا، لكنَّه ليس كاملًا تمامًا مع الآق قوينلو. لقد انتصر الفاتح انتصارًا ساحقًا على الآق قوينلو، وضمَّ معظم ما كان يتبع هذه الدولة في الأناضول، وما ضمَّه الفاتح لم يَضِعْ من العثمانيِّين بعد ذلك؛ بل هو جزءٌ الآن من تركيا الحديثة، لكن ينبغي ملاحظة أنَّ مملكة الآق قوينلو لم تسقط على يد الفاتح، بل ظلَّت لها أملاكٌ واسعةٌ في إيران، وأذربيچان، وأفغانستان، والعراق، وهذه أماكن لم يصل إليها الفاتح، ولذلك فهو لم يقضِ على الآق قوينلو، إنَّما أضعفها وأمِن شرَّها، وبعد الفاتح لم تلبث الآق قوينلو إلَّا قليلًا، ثم سقطت على يد الدولة الصفويَّة، التي صارت بعد ذلك من ألدِّ أعداء الدولة العثمانيَّة، ولكن هذا كلَّه لم يشهده الفاتح؛ إذ كان بعد موته بسنوات.
لقد مات الفاتح وقلبه مطمئنٌّ تمامًا من ناحية الأناضول، اللهمَّ ما كان من اضطراباتٍ في إمارة ذي القادر، لكنَّه لم يدخل في حروبٍ مباشرةٍ معها، ممَّا جعلنا لا نضمها إلى سلسلة أعدائه، وإن كانت الإمارة تتبع دولة المماليك المصريَّة، التي شاب علاقتها مع الفاتح شيءٌ من التوتر.
وعلى الرغم من أهميَّة الانتصارات التي حقَّقها الفاتح في الأناضول، وأدَّت إلى راحته وراحة دولته بشكلٍ كبير؛ لأنَّ الأناضول هو عمق الأراضي العثمانيَّة، والموطن الأم للدولة، على الرغم من هذه الأهميَّة فإنَّ أسعد النهايات في حياة الفاتح كانت نهاية صراعه مع عدوَّين من ألدِّ أعدائه، وهما ألبانيا، والبندقيَّة!
يلفت النظر جدًّا شفاء صدر الفاتح من هذين العدوَّين اللذين كانا سببًا في حزنه وألمه لسنواتٍ طويلة، وشاء الله أن يتمَّ هذا الشفاء للصدر في آخر سنتين من عمر الفاتح، ولو عجَّل الله بوفاته ثلاثة أعوام لمات دون أن تُحَلَّ أعظم مشكلتين واجهتا الدولة العثمانيَّة في زمانه، ولكنَّ الله أراد أن يُكلِّل جهوده بالنجاح، وأن يُثْلج صدره قبل موته.
كانت ألبانيا متمرِّدة على الدولة العثمانيَّة منذ ولاية محمد الفاتح، بل من أيَّام أبيه السلطان مراد الثاني. لقد بدأ تمرُّد ألبانيا عام 1443م، وظلَّ مستمرًّا إلى سنة 1479م، أي ستًّا وثلاثين سنة متَّصلة، ولقد حقَّق الألبان النصر على الفاتح في معظم الصدامات، وكانت نسبة نصرهم عليه 81%، ولكن شاء الله أن تكون النهاية سعيدة للفاتح؛ حيث عادت ألبانيا إلى حوزة العثمانيِّين في عام 1479م، وبعد معاهدة البندقيَّة الشهيرة.
الكلام نفسه يُقال على البندقيَّة، فحربها ضدَّ الدولة العثمانيَّة كانت قاسيةً وشديدة، ومحفوفةً بمخاطر متعدِّدة، ولقد عانى الفاتح من حرب البندقيَّة لمدَّة ست عشرة سنةً كاملة، وشاء الله أن تأتي النهاية السعيدة عام 1479م عندما رضخت البندقيَّة أخيرًا، ووقَّعت معاهدة استسلاميَّة للدولة العثمانيَّة، ورأى الفاتح بنفسه النتيجة الحاسمة الواضحة لحربه الطويلة.
وعلى عكس الصدام الصعب مع ألبانيا والبندقيَّة كانت هناك صداماتٌ أسهل نسبيًّا حقَّق فيها الفاتح النصر دون مشاكل كبرى، وكانت النتائج في غاية الروعة، ومات الفاتح وهو مطمئنُّ القلب على نتائج هذه الصراعات. تشمل هذه الصدامات الناجحة خمسة أعداء مهمِّين، هم: الدولة البيزنطيَّة، والبوسنة، وچنوة، وناكسوس، وفلورنسا.
كان انتصار الفاتح على الدولة البيزنطيَّة باهرًا، وعلى الرغم من أنَّ الدولة البيزنطيَّة كانت تعيش أيَّامها الأخيرة، وقد بلغت أضعف أطوارها، فإنَّها كانت تملك تحصينات كبيرة، بالإضافة إلى تاريخٍ طويل، وعلاقاتٍ متشعِّبة، وكان من المتوقَّع أن يقف معها الأوروبِّيُّون في حربها ضدَّ العثمانيِّين، لكن هذا لم يحدث، وكان انتصار الفاتح على الإمبراطوريَّة العتيدة كاملًا؛ حيث حقَّق الفوز عليها بصورة أنهت وجود هذه الدولة التاريخيَّة بشكلٍ قطعي.
ومثلما حدث مع الدولة البيزنطيَّة حقَّق الفاتح رحمه الله نصرًا ساحقًا على أربعة أعداء آخرين، وهم: البوسنة، وچنوة، وناكسوس، وفلورنسا. أمَّا البوسنة وچنوة فقد انتهى الأمر بضمِّ ما كانوا يملكون إلى الدولة العثمانيَّة، وأمَّا ناكسوس فقد قَبِلَت دفعَ الجزية، وظلَّت على هذا الاتفاق طوال عهد الفاتح؛ بل بعده لعدَّة عقود، حتى ضُمَّت أخيرًا إلى الدولة العثمانيَّة في عهد السلطان سليمان القانوني عام 1566م[31]، وأخيرًا تأتي فلورنسا، التي كانت تحكم دوقية أثينا، وبعد انتصار الفاتح عليها في هذه المدينة، تحوَّلت فلورنسا إلى صداقة الفاتح، ولم يأتِ من جانبها شرٌّ في حياته.
إِذَنْ هؤلاء عشرة أعداء رأى الفاتح ما يسرُّه من أمرهم في حياته، وهم: قرمان، وإسفنديار، والآق قوينلو، وألبانيا، والبندقية، وبيزنطة، وچنوة، والبوسنة، وناكسوس، وفلورنسا.
يُضاف إلى هؤلاء أيضًا ثلاثة أعداء انتصر عليهم الفاتح انتصارًا حاسمًا، لكن لم تكن سيطرته عليهم قويَّة بالشكل الكافي، وهم: إمارة زيتا (جزء من جمهوريَّة الجبل الأسود الآن)، وچورچيا، وإبيروس، وهذه المناطق مع كونها لم تكن تحت السيطرة العثمانيَّة الكاملة، إلَّا أنَّهم -لضعفهم- لم يكونوا أصحاب تأثيرٍ ذي بالٍ على الدولة العثمانيَّة.
يتبقَّى بعد هذا الحصر سبعة أعداء ظلَّ الفاتح على وجلٍ منهم في حياته. نعم لم يكونوا بالقوَّة نفسها، ولم يُحقِّقوا القدر نفسه من الأذى للدولة العثمانيَّة، لكن في النهاية لم يكن الفاتح حتى آخر لحظات حياته مطمئنًّا لهم. ثلاثة من هؤلاء الأعداء شَهِد الفاتح في آخر محطَّات حياته انتصاراتٍ عليهم، لكن لم تكن أوضاع بلادهم مستقرَّة، وبالتالي فهو كان يتوقَّع الأذى منهم في كلِّ لحظة. هؤلاء هم: صربيا، والإفلاق، ونابولي. كان الجنوب الصربي تابعًا للدولة العثمانيَّة لكن الفاتح لم ينجح في فتح بلجراد عام 1456م، وتلقَّى هناك هزيمةًكبيرة، ولم يُحاول مرَّةً ثانيةً في كلِّ عهده أن يفتح المدينة الحصينة، بالتالي ظلَّت مهدِّدةً له حتى آخر عمره، أمَّا الإفلاق فكانت مضطربة للغاية، وما أكثر ما تغيَّر فيها الولاء، وما أكثر ما تبدَّل فيها الزعيم، وكانت يومًا مع الدولة العثمانيَّة، ويومًا عليها. نعم في العام الأخير للفاتح كانت تابعةً له، لكنَّه كان يعلم أنَّ هذا مؤقَّت، وأنَّهم لن يلبثوا أن يُغيِّروا ولاءهم، وبالتالي كانت الإفلاق تُمثِّل قلقًا لا يهدأ عند الفاتح رحمه الله. وبالنسبة إلى نابولي فإنَّ الفاتح حقَّق عليهم عدَّة انتصارات في صيف 1480م، ولكن ملكهم فرديناند الأوَّل كان يُجمِّع الجنود، والسلاح، والمال، للعودة إلى الصدام مع الفاتح، وهو ليس ملكًا ضعيفًا؛ إنَّما كان مستقرًّا في حكمه منذ فترة، ويُتَوَقَّع لصدامه مع الفاتح أن يكون كبيرًا، خاصَّةً أنَّ الأراضي الإيطاليَّة بعيدةٌ عن الدولة العثمانيَّة، ويفصل بينها والعثمانيِّين بحارٌ كبيرة، ومِنْ ثَمَّ فالحرب معها ليست سهلة، خاصَّةً أنَّ مِنْ وراء نابولي تأتي أوروبَّا جميعًا، التي تخشى من توغُّل الفاتح فيها إذا سقطت هذه المملكة.
أمَّا آخر أربعةٍ من الأعداء العشرين، فإنَّ الفاتح لم يشفِ صدره منهم قط، بل ظلَّ لهم أثرٌ كبيرٌ في قلبه، وكان منهم مَنْ تفوَّق على الفاتح تفوُّقًا أحزنه وآلمه.. هؤلاء الأعداء هم: فرسان القديس يوحنا، وإمارة البغدان، ودولة البابا، والمجر.
كان فرسان القديس يوحنا هم أشدُّ الأعداء إيلامًا للفاتح؛ لأنَّ خسائره منهم كانت كبيرة، فقد سقط عددٌ كبيرٌ من الشهداء العثمانيِّين في الحصار الأخير لرودس، ونجح الفرسان في الحفاظ على مدينتهم، وشهدت الشهور التالية لهزيمة العثمانيِّين من الفرسان استعدادات رودسيَّة كثيرة، وتصاعدت حملات الدعم الأوروبِّي لهم، ولهذا كان متوقَّعًا أن يستمرُّوا في المقاومة بشكلٍ أكبر، ولهذا أعتقد أنَّ الحملة الأخيرة للفاتح -التي لم تكتمل لموته المفاجئ بها- كانت متَّجهة لجزيرة رودس لحرب فرسان القديس يوحنا.
الكلام نفسه يُقال على استيفين الثالث أمير البغدان؛ فقد قاد تمرُّدًا ضدَّ الدولة العثمانيَّة منذ عام 1473م، ومنذ ذلك الوقت والفاتح لا يستطيع السيطرة على الأمور هناك، حتى عندما انتصر الفاتح على البغدانيِّين في موقعة الوادي الأبيض عام 1476م فإنَّه لم يستطع أن يستثمر هذا الفوز، وما لبث أن عاد استيفين الثالث للسيطرة على البغدان. نعم توغَّل الجيش العثماني في البغدان في أبريل 1481م -أي قبل موت الفاتح بشهرٍ واحد- لكنَّه كان توغُّلًا محدودًا، ولم يكن يهدف إلى استراداد البغدان؛ إنَّما كان ردًّا على تدخُّل البغدان في شأن الإفلاق، وتغيير القيادة فيها، ومِنْ ثَمَّ فقد بقي استيفين الثالث شوكةً في حلق محمد الفاتح إلى آخر لحظات حياته.
إلى جوار فرسان القديس يوحنا واستيفين الثالث كان هناك عدوَّان يُمثِّلان خطرًا داهمًا على الفاتح، وهما: ماتياس ملك المجر، والبابا سيكستوس الرابع. ومع أنَّ التوازن كان موجودًا بين الدولة العثمانيَّة وهذين العدوَّين فإنَّهما كانا قويَّين بالدرجة التي يُمكن أن يُحْدِثا أثرًا كبيرًا يؤذي الدولة العثمانيَّة. لم يستطع الفاتح أن يستردَّ يايسي البوسنيَّة من ماتياس ملك المجر، وظلَّ هذا الملك داعمًا لأعداء الفاتح مثل دراكولا الثالث، أو استيفين الثالث، وكان من المتحمِّسين لقتال العثمانيِّين في إيطاليا بعد سقوط أوترانتو، وكان جيش ماتياس قويًّا كبيرًا، ومُجهَّزًا بأسلحةٍ متطوِّرة، وكان الملك في توسُّعٍ مستمر، وازديادٍ في المملكة على حساب بوهيميا والنمسا، ولهذا ظلَّ الفاتح إلى آخر عمره متوجِّسًا من هذا الملك القوي. أيضًا كان البابا سيكستوس الرابع متحمِّسًا لقتال العثمانيِّين، ولا شَكَّ أنَّ الأزمة الأخيرة التي حدثت عندما احتلَّ العثمانيُّون الجنوب الإيطالي قد استفزَّت البابا لتحريك حملةٍ صليبيَّةٍ كبيرةٍ لحرب الفاتح، وحيث إنَّ الأوضاع في غرب الدولة العثمانيَّة في منطقة ألبانيا واليونان لم تستقر لصالح العثمانيَّين إلَّا في العامين الأخيرين من عمر الفاتح فقط، فإنَّ الفاتح كان قلقًا من إمكانيَّة تجميع البابا لقوَّاتٍ كبيرةٍ تُؤثِّر في الأوضاع في غرب الدولة العثمانيَّة، بالإضافة إلى أنَّ الفاتح كان لا يأمن من استمرار البندقيَّة في الحفاظ على السلام مع الدولة العثمانيَّة، ولا شَكَّ أنَّه كان يخشى أن تستجيب البندقيَّة لنداءات البابا المتكرِّرة، وعندها قد تتغيَّر موازين القوى لصالح الأوروبِّيِّين.
ظلَّ الوضع متوتِّرًا على هذا النحو حتى آخر أيَّام الفاتح رحمه الله.
إنَّ هذا التحليل يُثبت أنَّه على الرغم من كلِّ الجهد الذي بذله الفاتح، وعلى الرغم من أنَّه قد استنفد وسعه في حرب هؤلاء الأعداء، فإنَّه لم يُقدَّر له أن يطمئنَّ على وضع الدولة عند آخر أيَّامه، كما أنَّه لم يُحقِّق النصر الكامل الذي كان يتمنَّاه، بل ظلَّ هناك من الأعداء من يتقدَّم عليه، أو على الأقل يُهدِّد أمنه وأمن دولته.
إنَّ هذا أمرٌ يبدو مُحْزِنًا لبعض القرَّاء؛ حيث إنَّهم كانوا يتوقَّعون -أو على الأقل يتمنوُّن- أن يُنهي الفاتح حياته سعيدًا بالانتصارات الكاملة، وأن يقرَّ الله عينه، ويُطمْئِن قلبه، ويشفِ صدره من أعدائه الألدَّاء..
ونحن نقول: نعم هذا أمرٌ مُحْزِنٌ، ولكنَّه واقعيٌّ وطبيعيٌّ! ومهما كان الأمير قريبًا من الله، ومطبِّقًا لكلِّ بنود الشريعة، ومحقِّقًا لكلِّ ما هو مطلوبٌ منه كأميرٍ وقائد، مهما كان على هذه الصورة، فإنَّ الأوضاع لا تستقرُّ كلُّها وفق ما يتمنَّاه، بل تتحقَّق بعض الأهداف ويبقى غيرها غير متحقَّق، وهذه طبيعة الدنيا، وهي متوافقةٌ مع ما ذكره الله عز وجل في كتابه بخصوص الصدام مع أعداء الأمَّة..
يقول تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [غافر: 77]، ويقول أيضًا: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُون﴾ [الزخرف: 41، 42]، ويقول كذلك: ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد: 40].
إنَّ مثل هذه الآيات تُوضِّح أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار نهايات الصدام مع أعداء الأمَّة، ويذكر سبحانه وتعالى أنَّ هناك نهايتين قد يرى المسلم إحداهما في حياته؛ أمَّا النهاية الأولى فهي رؤية نصر المؤمنين وتمكين الدين، وأمَّا النهاية الثانية فهي عدم رؤية ذلك في الدنيا، وتأجيل شفاء صدر المؤمن من هذه المسألة إلى يوم القيامة، وهاتان النهايتان ليستا مرتبطتين بصلاح العبد أو فساده، ولا بصوابه أو خطأه؛ إنَّما يُصرِّفهما الله بحكمته كيفما يُريد، ولقد حدثت النهايتان لرسول الله ﷺ؛ فقد أراه الله النصر على كفَّار قريش، وعلى يهود المدينة بقبائلهم الثلاث، وعلى يهود خيبر، فكانت هذه هي النهاية الأولى، ولكنَّه أيضًا رأى النهاية الثانية؛ وهي بقاء العدوِّ على حالته القويَّة دون أن يرى بنفسه النصر عليه، وذلك مثل ما حدث مع كسرى فارس يزدجرد، ومع قيصر الروم هرقل، ومع مدَّعي النُّبوَّة مسيلمة الكذاب، وكذلك مع مدَّعي النُّبوَّة الأسود العنسي، فهؤلاء جميعًا بقوا ممكَّنين في بلادهم إلى آخر حياة رسول الله ﷺ، وبعضهم هُزِم بعد وفاته ﷺ بشهور أو بسنة، كالأسود العنسي ومسيلمة، وبعضهم بقي لسنوات ممكَّنًا ثُمَّ هُزِم كيزدجرد، وبعضهم بقي ممكَّنًا إلى آخر عمره، دون أن يضيع ملكه كهرقل، فهذا كلُّه لا يرتبط بعمل رسول الله ﷺ؛ فقد كان عمله كاملًا ووافيًا في كلِّ الأحوال؛ إنَّما يُعلِّمنا الله عز وجل أنَّ الحقوق لا تُستردُّ بكاملها في الدنيا، وأنَّ النصر لا يأتي دومًا في هذه الحياة؛ إنَّما الذي علينا هو العمل والصبر على الحق، وعلى الله الحساب؛ فإن شاء حاسب في الدنيا، وإن شاء أجَّل ذلك إلى الآخرة..
هذا ما حدث مع محمد الفاتح رحمه الله..
لقد جاهد وصبر وضحَّى، ورأى بعضَ ما وعد الله عز وجل عباده من نصر، وأجَّل الله بعض النتائج إلى بعد وفاة الفاتح بسنوات، فانتصر حفيده سليمان القانوني على فرسان القديس يوحنا، وعلى الصرب في بلجراد، وكذلك على مملكة المجر، فكانت هذه نهايات مؤجَّلة إلى حين، وبقي آخرون من أعدائه أكثر من هذا، والأمر في النهاية كلُّه لله، والعبد مأجورٌ على العمل الصالح، وليس على النتيجة النهائيَّة.
وقد يسأل سائلٌ عن حكمة غَلَبة أعداء المسلمين لهم مع أنَّ قادة المسلمين وجيوشهم يبذلون قصارى جهدهم في السعي لتحقيق النصر، والإجابة عن هذا السؤال ذات شقَّين: أمَّا الأوَّل فهو احتمال حدوث خطأ عند المسلمين؛ أي أنَّه يوجد خطأٌ شرعي، أو خطأٌ في الأسباب التي تُؤدِّي إلى النصر، وبالتالي لم يتحقَّق الفوز، وفي هذا لفتٌ لنظر الأمَّة كي تُصوِّب مسارها، وتُصحِّح خطواتها. أمَّا الشقُّ الثاني فهو يحدث عندما تكون الأمَّة آخذة بكلِّ الأسباب الصحيحة شرعيًّا ومادِّيًّا، ومع ذلك لا يحدث التمكين، أو يظلُّ الأعداء في قوَّتهم وغلبتهم، فالحكمة هنا هي دوام تعلُّق المؤمنين بالله، حيث إنَّهم في أزمتهم هذه يكونون دائمي الطلب منه سبحانه، والحكمة كذلك في عدم الزهو والعجب، فإنَّ وجود عدوٍّ متمكِّن، وحدوث هزائم بين الحين والآخر تكسر حدَّة الإعجاب بالنفس، فيأتي التواضع، وهذا فيه مصلحةٌ للفرد والأمَّة، وأيضًا فإنَّ حدوث مثل هذاه الانكسارات يُنقِّي الصف، ويطرد المنافقين الذين لا يُريدون الطريق المستقيم لذاته، إنَّما يُريدونه لمكاسبه الدنيويَّة، وأخيرًا فإنَّ هذه الهزائم تفرض على المؤمنين حياة الجدِّيَّة، وتبعدهم عن الترف، والإفراط في التمتُّع بالحياة، وهو مطلبٌ في حدِّ ذاته، حيث إنَّ الله عز وجل خَلَق الإنسان ليعبد لا ليلهو، ولقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 97 - 99]، فكأنَّ عبادة الله حتى اليقين -أي حتى الموت- لن تحدث إلَّا إذا وُجِد الأعداء الذين يقولون ما يُضَيِّق صدور المؤمنين، فعندها يلجأون إلى الله بالتسبيح والسجود، وباستمرارهم في جدِّيَّة العبادة حتى الموت. وسبحان الله الذي يختار بعلمه وحكمته ما يصلح حياة المؤمنين.. قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68].
هكذا كانت حياة الفاتح رحمه الله..
انتصارات يسعد بها المسلمون وتقر أعينهم.. وهزائم وانكسارات يعودون فيها إلى الله، ويزيد ارتباطهم به سبحانه، وفي كلٍّ خير، وما أبلغ ما وصف به رسول الله ﷺ حال المؤمن، حين قال فيما رواه صُهَيْبٌ الروميُّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»[32][33].
[1] Clot André suleiman the magnificent [Book] / ed. Gough Jana / trans. Reisz Matthew J.. - Netherlands : New Amsterdam Books, 1992, p. 17.
[2] Teeple John B Timeline of World History [Book]. - NewYork, USA : DK Publishing,, 2002.
[3] Feldman Ruth Tenzer The Fall of Constantinople [Book]. - Minneapolis, MN, USA : Twenty-First Century Books, 2007.
[4] Angold Michael The Fall of Constantinople to the Ottomans: Context and Consequences [Book]. - New York, USA : Routledge,, 2014.
[5] Runciman Steven The Fall of Constantinople 1453 [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press, 1965.
[6] Steele Joel Dorman and Steele Esther Baker A Brief History of Ancient, Mediaeval and Modern People [Book]. - NewYork, USA : American Book company., 1883, p. 407.
[7] Lilly William Samuel Chapters in European History [Book]. - London, UK : Chapman & Hall,, 1886, vol. 1, p. 98.
[8] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية، المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/178.
[9] أوزتونا، 1988م صفحة 1/180.
[10] Rogers Clifford J The Oxford Encyclopedia of Medieval Warfare and Military Technology [Book]. - New York, USA : Oxford University Press, 2010, vol. 1, p. 96.
[11] Wittek Paul The Rise of the Ottoman [Book]. - London, UK : Routledge, 2012, p. 173.
[12] Arnakis George Georgiades and Vucinich Wayne S The Near East in Modern Times [Book]. - ct, USA : Pemberton Press., 1969, vol. 1, p. 63.
[13] Crompton Samuel Willard 100 Military Leaders Who Shaped World History [Book]. - California, USA : Bluewood Books, 1999.
[14] البزار، 1979م (1826)، والبيهقي، 1988م صفحة 5/123، وأبو عوانة، 1998م (6754)، وقال الهيثمي: رواه البزار، وفيه علي بن عاصم بن صهيب، وهو ضعيف لكثرة غلطه وتماديه فيه، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. الهيثمي، 1994م صفحة 6/178.
[15] أحمد (12235)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وأبو يعلى، 1984م (3840)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[16] Pilat von Liviu and Ovidiu Cristea The Ottoman Threat and Crusading on the Eastern Border of Christendom During the 15th [Book]. - Boston, USA : Brill., 2017, p. 135.
[17] O'Connell Monique Men of Empire: Power and Negotiation in Venice's Maritime State [Book]. - Baltimore, USA : The Johns Hopkins University press, 2009, p. 35.
[18] Dyer Thomas Henry The history of modern Europe: from the fall of Constantinople in 1453, to the war in the Crimea in 1857 [Book]. - London, UK : J. Murray, 1861, vol. 1, p. 80.
[19] Crowley Roger 1453: The Holy War for Constantinople and the Clash of Islam and the West [Book]. - New York : Hyperion, 2005, p. 239.
[20] Jacob Samuel History of the Ottoman Empire [Book]. - London, UK : Richard Griffin and Company, 1854, p. 332.
[21] Winnifrith Tom Perspectives On Albania [Book]. - New York, USA : Palgrave Macmillan, 1992, p. 74.
[22] Pop Ioan Aure and Bolovan Ioan History of Romania [Book]. - Bucharest, Romania : Romanian Cultural Institute., 2006, p. 211.
[23] Brown Horatio Forbes Venice: An Historical Sketch of the Republic [Book]. - London, UK : Percival And company, 1893, pp. 313-314.
[24] Stavrides Theoharis The Sultan of vezirs : the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474) [Book]. - Leiden : Brill Academic Publishers, Inc, 2001, p. 194.
[25] Kirk Thomas Allison Genoa and the Sea: Policy and Power in an Early Modern Maritime Republic [Book]. - Baltimore, USA : The Johns Hopkins University, 2005, p. 17.
[26] Finlay George The history of Greece under Othoman and Venetian Domination, A. D. 1453-1821 [Book]. - Edinburgh And London : William Blackwood and sons, 1856, p. 119.
[27] Rose Susan Medieval Naval Warfare 1000–1500 [Book]. - London, UK : Routledge, 2012, p. 111.
[28] Janin Hunt The Pursuit of Learning in the Islamic World, 610- 2003 [Book]. - Jefferson, NC, USA : McFarland & company, inc, 2005, p. 112.
[29] Bridge Cyprian Sea-Power [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2013, p. 26.
[30] Harlaftis Gelina and Vassallo Carmel New Directions in Mediterranean Maritime History [Book]. - Oxford, Uk : Oxford University Press., 2017, p. 162.
[31] Tallett Frank and Trim D. J. B. European Warfare, 1350-1750 [Book]. - NewYork, USA : Cambridge University Press., 2010, p. 41.
[32] مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (2999)، وأحمد (18954) واللفظ له، وابن حبان، 1993م (2896).
[33] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 910- 967.
التعليقات
إرسال تعليقك